لا جدال في أن المخرج القدير “ستيفن سبيلبرج” نبش ملفات مرحلة حاسمة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإن كان أراد تسليط الضوء على أحد أبرز الرؤساء الأميركيين، وهو الرئيس الأسبق ابراهام لنكولن، الذي يوصف تارة بمحرر العبيد، وغالباً بالمؤسس الثاني للولايات المتحدة . كان المخرج ذكياً للغاية في اختياره المرحلة الأكثر دقة في حياة لنكولن، والتي شكلت مرحلة الذروة الواعدة بانعطافات حادة، ليست في حياة الرئيس لنكولن فحسب، بل في التاريخ السياسي الأمريكي؛ ففي تلك المرحلة بالذات ظهرت السجايا التي تميَّز بها الرئيس لينكولن والتي تلخَّصت في مُعارضته للرق، مع إقراره الضمني بعدم تساوي الأعراق!، وبهذا المعنى استطاع أن يُرضي السود المُسترقِّين من جهة، وأن يُرضي البِيض الأقحاح من المخلصين لرسالة التمييز العرقي من جهة أُخرى.. لكنه في نهاية المطاف لم يلقَ قبولاً من قبل البِيض لمجرد إصداره قانون تحرير العبيد. كان قانون تحرير العبيد يتوخَّى سلسلة من الأهداف السياسية التي تتجاوز منطوقه، فبالرغم من أهمية ذلك التشريع، إلا إنه كان يضع بعين الاعتبار تسوية الخلافات بين الولايات الجنوبية والولايات الشمالية، على قاعدة تحرير الاقتصاد، واستيعاب الولايات المكتسبة بعد حرب المكسيك، على قاعدة تذويب تلك الولايات في النموذج الأمريكي. استطاع المخرج وطاقم عمله استعادة أجواء المرحلة التاريخية المُشار إليها، والتي تمفْصلت في عام 1865م، وهي ذات السنة التي تمَّ فيها اغتيال الرئيس ابراهام من قبل مُتعصبٍ جنوبي أبيض، وقد استعاض المخرج عن الدرامية المشهدية للإغتيال بالتركيز على العرض المسرحي الذي كان يُشاهده الرئيس مع زوجته، وكانت الرمزية في الاغتيال نابعة من ذات المشهد المسرحي.. حين أجهشت زوجته بالبكاء في إيماءة مُعبِّرة عن مصير الرئيس، الذي سرعان ما تبيَّن وهو مُحاط بكوكبة من معاونيه، فيما أفاد الطبيب الشرعي بأن الرئيس مات. يتَّسم الفيلم بدرجة واضحة من المهنية التوثيقية، فالأساس المشهدي البصري الذي بدا متواضعاً، وجد له وجهاً مُكملاً في التعبير الناجم عن مجاورة طبيعة المحنة التي كانت مرت بها الولاياتالمتحدة.. وكانت تلك المحنة وسيلة لإظهار سجايا الرئيس ابراهام وميزاته الإنسانية. يومها كان القائد الأمريكي يواجه ثنائية جغرافية سياسية حرجة.. فالولايات الشمالية تزدهر بثورة صناعية معرفية، وتقبل بتحرير العبيد، فيما الولايات الجنوبية تعتمد على الاقتصاد الزراعي، وترى في استمرار العبودية سبباً لتحقيق المصالح الإقطاعية لكبار مُلاك الأراضي الزراعية، وتبحث في ذات عن كل المصوغات لتبرير هذا السلوك العنصري المفارق لكل ملة ونِحلة. كان أمام الرئيس تحدٍ كبير، ولهذا لجأ إلى مواجهة الحقيقة بروحية لا تقبل بأقل من الحسم؛ ذلك أن 11 ولاية جنوبية أعلنت الانفصال تحت مسمى “الولايات الكونفدرالية الأمريكية” وبالترافق، بدات تباشير تمرد في الولايات اللصيقة بالشمال. ذلك التصرف الراديكالي من قبل ابراهام لنكولن وضعه في خانة قبول أساسي من قبل جمهوريي تلك الفترة، ورفض مؤكد من قبل ديمقراطيي تلك الفترة أيضاً. حرص المخرج ستيفن سبيلبرج على تسليط بؤرة الضوء على سيرة عامرة في زمن قصير جداً. لكن كامل الإيماءات الكلامية والنفسية كانت تضع المشاهد في إطار الصورة الأشمل للرئيس، مع عناية كاملة بمكانة زوجته في العملية السياسية والمجتمعية، مما يعيدنا إلى ذات الدور المركزي الذي لعبته تلك المرأة طوال حياته الزوجية، فقد وصفها المؤرخون بأنها كانت امرأة قوية الشكيمة، ومجادلة من طراز غير مألوف.. بل إنها كانت أقرب إلى النموذج المُتسلِّط في تعاملها مع ابراهام المحامي، قبل أن ينخرط في العمل السياسي ويصبح رئيساً. صور المعارك، والمشهديات البصرية البانورامية كانت معيارية على قِلَّتها، قياساً بالتصوير الداخلي، لكن سيادة التصوير الداخلي تم تعويضه بالمؤثرات اللونية المترافقة مع الإضاءات الخاصة، الباحثة عن استرجاع روحية العصر الذي أراد المخرج وطاقم عمله تقديمه للمشاهدين بطريقة واقعية مَلْحمية. وفي كثير من الحالات كانت التعبيرية الرمزية وافية لإيضاح جوانب أساسية في مقاصد المخرج، ومنها على سبيل المثال: التركيز على العتمة اللَّونية في أحوال الأزمة، واستخدام الدراما المسرحية في إشارة لمَّاحة للإغتيال المفاجئ للرئيس، واستخدام الشعلة الأولى شاحبة اللون قبل أن يقرأ الرئيس قراره بتحرير العبيد، وغيرها من التعابير. يندرج هذا الفيلم ضمن إطار التدوين البصري لمرحلة تاريخية هامة بالولاياتالمتحدة، ويؤشر إلى متوالية التحولات الموضوعية التي فارقت ثوابت العقل المركزي العنصري، وأظهرت الجوانب الانسانية في حياة الرئيس الموصوف بأنه المؤسس الثاني للولايات المتحدةالأمريكية، ومحرر العبيد فيها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك