لم نكن ندرك أننا سنفتقد ملامح عامة - شاركت معنا في الثورة-إلى هذا الحد! لم تكن الجدران الإسمنتية هي أول القصة، ولم يكن الرصاص هو الأخير، في تلك الجمعة..لم يكن ثمة مساحة لدموع الود، وإنما لدموع الذهول، وثمة فرق كبير بينهما، فالموت عندما يزورنا.. يزورنا بالحزن، أما عندما يزورنا فجأة...فثمة مرارة عجيبة تحملها تلك الدموع النيئة! أمام تمثال الحكمة، اعتقدنا لوهلة أنها ستوقف الموت والرصاص، وكنا نتساءل بذهول: ألسنا أهل الحكمة! لم نكن ندرك أن الرصاص لم يتعلم تلك الحروف بعد، لا هو ولا أصابع حامليه، لكن تلك الملامح كانت قد شربت من نهر الحرية، منذ أشرق فجر صنعاء خالياً من الخوف، منذ ارتقت ورود بيضاء إلى السماء بعد أن دهستها دبابة كانت تحرس بوابة الجامعة! منذ فقد الجندي بوصلته، وفقد التحكم بأصابعه التي ضغطت على الزناد بلا مبالاة! ومنذ عرف الشهداء أن الحاكم لم يعد يملك شيئاً حتى الموت. تسألني صديقة معتقة: من أنتم حتى توزعون مناصب الشهداء!! أليس سكان السبعين أيضاً شهداء؟ أجبتها باقتضاب: وكيف يستوي المقتول بالقاتل ؟. وحدها السماء كانت تبكي منذ الفجر بصمت، ورغم أننا فتحنا نوافذ خيامنا بفرح جديد، إلا أننا شعرنا بألمها المبكر، وقلنا لعله الخوف الفطري من الرصاص القادم كتحية صباحية من مختلف منافذ الساحة، وكنا نسمعها بتوجس، ونبتسم للحرية، وكل واحد منا لا يدري حقاً متى سيحين قطافه، ولكن جميع تلك الملامح كانت تتفق بلغة الابتسامة، كيف لا، والوطن أخيراً ينتصر على لعبة رقص الثعابين. الله أكبر...سقطت من قاموس دين الرصاص، وحملها مسلمون كهدية أخيرة لإخوتهم المسلمين، لا أدري كيف كان يومها يبتسم القاتل، هل بلذة الانتصار، أم بخوف القتل، أو لعله شعور جديد...ينمو كشارب في جبين الريح! حقاً لا أدري كيف تجرأت تلك الأصابع الآثمة على أن تضغط على الزناد وكأنها أمام مشهد درامي، لا واقعي، وبعد صلاة...وليس شيء آخر. الدموع المرة التي ابتلعتها وغيري ذلك اليوم، لم يكن أمر منها إلا تصريح سخيف (الشعب اليمني كله قناص). السماء تلعن القاتل وقت قتله مرة، أما أن يبرر قتله، فلا أظن أن لعائن السماء بأحجامها تكفي تمريغ سحنته القميئة،وحدهم الشهداء من يستطيعون اختصار المشهد بابتسامتهم، هاهم يشتمونه بابتسامة عذبة لا تزال معلقة في بقايا خرق الخيام البالية، ينعمون بحرية ملئها السماوات والأرض، بينما قتلتهم تضيق عليهم أوردة التفكير، ليطالبوا بحصانة الأرض، إذاً من يهبهم حصانة السماء؟. في ذكرى رحيلكم، يتحاور اليمنيون من أجل إكمال ما بدأتموه، لكني أتساءل بخجل: أحقاً لم يستطع المتحاورون أن يبدأوا حديثهم إلا في يوم دمكم. تباً لهم،وتباً لحروفهم....لو كانوا يؤمنون بكم حقاً ما قبلوا الدوس على أرواحكم من أجل حفنة من الحروف الميتة سلفاً! البشر الحمقى نحن، والبشر الطيبون أنتم، الأرض تحكي لنا بأسى عن ظل ابتلعته منذ زمن، ولكن وحدها السماء من تشرق كل يوم بكم، وتتحدث بلغتكم، ولكن البشر لا يفهمون لغتها....ولذا منعت من المشاركة في الحوار. رابط المقال على الفيس بوك