بصدور القرارات التنفيذية لهيكلة الجيش، تكون اليمن قد أوشكت على إسدال الستار نهائياً على حقبة مقيتة من الحكم بسطوة القوة العسكرية، والاستئثار بالسلطة والثروة لصالح مراكزها الرئيسية وحلفائها. الاغراق في التشكيك وتصور المثاليات في بلد تعصف به أزمات مستعصية، أمرٌ غير منطقي، وينبغي التعاطي الإيجابي مع القرارات الأخيرة الخاصة بهيكلة الجيش، وإعادة تشكيله على أسس وطنية تراعي خصوصيات الشراكة الوطنية، وتبلسم جانباً من الجروح الغائرة في الجنوب بعد عقدين من الاقصاء والعزل، على أن هذا يعتبر جزءاً مهماً من بادرة حسن النوايا تجاه الجنوب، وليس كل شيء. نفذ الرئيس الجزء الأهم والأكثر خطورة في ملف التسوية، وحقق صُلب أهداف الثورة، بإنهاء السيطرة العائلية على مفاصل الجيش، بعد أن ظلّ كثيرون يشككون في إصدارها، حتى أنهم توقعوا خروجها شكلياً مفتقدة للتوازن، محتفظة بجذوة مشتعلة للصراع والتوتر، مبقية على مراكز القوى العسكرية متسيّدة، تتنازع النفوذ والسلطة، فكان ما فاق التوقعات. ويترتب على ذلك مسؤولية وطنية وأخلاقية، تتحملها القوى والمكونات السياسية والاجتماعية، ومؤسسات الدولة، المدنيون والعسكريون على حد سواء، إذ ينبغي أن يثبت كل طرف حسن النوايا من جانبه، لضمان إنجاز تحول حقيقي لصالح حضور الدولة وتعزيز نفوذها وهيبتها، التي كان غيابها وعدم رشد ما حضر منها السبب الرئيسي في كل المظالم التي طغت شمالاً وجنوباً.. *** وأولى المسؤوليات التي ينبغي أن يستشعرها ضباط وأفراد الجيش في مختلف المعسكرات، هي الحفاظ على تماسك وانضباط ألوية الجيش، والتوقف عن الفوضى، التي أصبحت أشبه بموضة قدرها أن تمر على جميع المعسكرات لأتفه الأسباب، خلافاً لمبدأ الالتزام الذي يفترض أن يسود الأداء العسكري. في المقابل ينبغي إعمال مبدأ المساءلة والتفتيش والتدوير والتقاعد، والتعامل الحازم والمسؤول مع أي حالة فوضى في المعسكرات، ومنح الجنود والضباط مستحقاتهم العادلة المقررة، التي حرموا منها كثيراً، كالمعونات الغذائية والملابس والإجازات، والترقيات، وضبط الجنود المنفلتين والتجنيد الوهمي، والمساواة في الامتيازات، ابتداء بالدورات التأهيلية، والتسليح الفردي، والمساكن، استناداً لمعايير مهنية، بعيداً عن الشللية والمحاباة الفئوية والمناطقية التي تحكمت كثيراً في منح الحقوق والامتيازات. *** ثمة مراكز قوى أخرى خارجة عن عباءة الدولة، ينبغي لها أن تذوب في دائرتها، خصوصاً أن كثيراً من قياداتها تهلل للدولة المدنية، وتتمنى أن تتجول في صنعاء دون سلاح أو مرافقين، كما تفعل في دبي أو الرياض أو لندن.. وهذا لن يتأتّى ما لم تبادر إلى التخلي عن أدوات القوة والنفوذ وتعزيز مركز الدولة وحدها، باعتبارها الضامنة الوحيدة لتطبيق القانون والمساواة أمامه، وإنصاف ذوي المظالم. أما أن تظل الهواجس قائمة، بمبررات انتهازية، وعدم التنازل لصالح الدولة، بطرف يتذرع ببقايا النظام، وآخر يهول من شبح علي محسن، ويشترط البدء بنزع سلاح قوى المركز وصولاً إلى الأطراف، وثالث يشترط تسليم الحوثيين سلاحهم، فسيبقى مستقبل البلاد رهينة الاشتراطات ومزاج الصراع ومغامرات تجار الحروب وحساباتهم الضيقة. وإذا غابت المبادرة في هذه السانحة، لصالح دولة تحفظ وحدها أدوات القوة، فسيستمرئ أولئك لغة السلاح والقوة، الذي يرون فيه الضامن الوحيد لاستمرار نفوذهم، فستفتقد هذه الخطوة الجريئة كثيراً من فعاليتها وحيويتها، لتخلق بؤر توتر جديدة لن نتعافى منها بسهولة. *** كتبت، وكثيرون غيري، مراراً عن أولئك الذين لازالوا يقطعون الطريق في شوارع حي الجامعة بصنعاء، في ساحة التغيير سابقاً، بلا طائل، ودعونا لإزالتها وتطبيع الحياة العامة للناس. ضمان تحقيق أهداف الثورة لا يكون بالاستمرار في قطع الطريق بشكل سافر وهمجي، إذ لم تعد الثورة المفترى عليها بحاجة إلى قطع طريق للتأكيد على استمراريتها، فمن يحملون روحها ويحلمون بالعدالة والمواطنة حقاً، سيكونون على أتم الاستعداد للنزول في مختلف الشوارع والساحات، متى عادت الأوضاع إلى مربع الحكم الفردي والفئوي من قبل أي طرف كان. *** دعم القرارات لا يكون بعبارات الثناء والإشادة والتبجيل، بل بإجراءات مساندة تعزز من القيمة الكلية التي افتقدناها وآباءنا، وأجهضت معها أحلامنا وأهدرت فرص الحياة والعيش الكريم.. هي الدولة التي لو أهدرت فرصة بنائها في هذه المرحلة، فلربما نهدر أجيالاً قبل أن نحظى بفرصة مواتية تعيدها للحضور بحظوظ جيدة كتلك التي تحظى بها الآن، وهذا ما ينبغي أن يدركه الجميع. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك