الأسبوع الماضي تحدث السفير قاسم عسكر جبران الذي ينشط في صفوف أحد فصائل الحراك الجنوبي البارزة في قناة العربية بأسلوب متعالٍ متخفف من الدبلوماسية، التي يفترض أن يتسم بها الرجل كدبلوماسي في صفوف الحراك. في أحد ردوده على المذيع، الذي سأله عن إمكانية بقاء الوحدة، بصيغة معينة كالفيدرالية أو نظام الأقاليم، يقول السفير “لماذا نحرص على البقاء متوحدين، مع من نتوحد؟! ليش احنا رايحين نعمل وحدة مع سويسرا؟! والا أمريكا.. هم مجموعة قبائل ونظام عسكري متطرف (...) النظام عندنا سيكون مختلفاً عنهم تماماً.. وهم (الشماليون) لا يمكن أن يؤسسوا دولة حتى على مدى خمسين سنة.. وأنصح إخواننا في الخليج أن لا يقدموا أموالهم لهذا النظام لأنها ستكون خاسرة، ولن تحقق أي نتائج.. واستعادة دولة الجنوب هي مقدمة لإصلاح أوضاع الجمهورية العربية اليمنية”. من حق السفير قاسم عسكر أن يسجل مواقفه المنتصرة للقضية التي يناضل من أجلها، لكن لا يليق به الانحراف إلى الشطح بتصريحات هوجاء متطرفة، بعيداً عن الخيارات السياسية والحصافة الدبلوماسية. السفير عسكر الأمين العام للمجلس الأعلى للحراك الجنوبي، ليس أحد المطحونين الذي أقصوا من وظائفهم بعد حرب صيف 94 الكارثية، كمعظم كوادر الحزب الاشتراكي اليمني شمالية وجنوبية، بل استمر في عمله دبلوماسياً في وزارة الخارجية وعينه الرئيس السابق سفيراً في موريتانيا، وظل سفيراً مخلصاً للنظام إلى عام تدشين الحراك الجنوبي.. بعد انتهاء فترة عمله في نواكشوط، أعيد عسكر إلى ديوان الوزارة في صنعاء على الأرجح.. بالتأكيد؛ هناك قدر من التهميش لكفاءات شمالية وجنوبية، ظاهرياً باسم معيار دبلوماسي يقتضيه التناوب بين العمل في ديوان الوزارة و السفارات والقنصليات، على أن تلك المعايير تخضع كثيراً للاستثناءات، بمعنى آخر للمزاج والحظوة. كدبلوماسي ظل مدافعاً عن الوحدة ونظام علي عبدالله صالح، إلى ما قبل نهاية فترة عمله الأخيرة، ما كان ينبغي للسفير أن تخونه دبلوماسيته المفترضة، ليتحدث بلهجة متعالية ومعممة ينال بها إخوانه مواطني “الشمال”، الذين فيهم ضحايا تبعاً لحرب 94 تماماً، وربما أكثر في بعض الحالات من إخوانهم في الجنوب. الشمال ليس “سويسرا” فعلاً، وأتفق مع السفير في ذلك ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.. لكن الجنوب ليست “أيسلندا” ولا “النرويج”.. لا أدافع عن النظام، بل عن مقتضى احترام الانسان، شمالياً كان أم جنوبياً.. جميعنا يدرك أن الطينة والعجينة متجانسة إلى حد كبير، مع احتفاظ كل منطقة بخصوصيتها، ولا يوجد شعب مثالي أو مختار دون الآخر. لا أنكر على السفير حقه في الاصطفاف في أي طرف سياسي، وتبني أي خيارات سياسية، ولا أستحضر منصب السفير سابقاً، كإدانة له لا يجوز معها تبني أي موقف أو رؤية سياسية مغايرة، على سنة اتهام تاريخ المنضمين للثورة، ولست من دعاة التخوين وانتقاص قدر أي جهد أو نضال في قضية ما، ذات طابع سياسي أو إنساني أو اقتصادي، والسفير عسكر ناضل واضطهد وتعرض لكثير من القمع والسجن، على خلفية آرائه ومواقفه من القضية الجنوبية، لكن دون اتهام عام ومتعالٍ ضد “الشماليين” باعتبارهم “محتلين” مفترضين للجنوب. “الإنسان تغير في شكله وتفكيره” يقول السفير، مشيراً بذلك إلى الإنسان الجنوبي الذي تغير ولم يعد يشكل خطراً على الجوار والعالم -كنظيره الشمالي المتخلف- تماماً كما النظام الجنوبي الذي يبشر به السفير.. لا أفهم طبيعة التغيير الشكلي في الإنسان، لكن التغيير في التفكير - الذي لا أعده أمراً معيباً – يتجلى بشكل بائس في منطق السفير عسكر. وإذا كان هذا هو منطق الدبلوماسي الذي يفترض به الحصافة والتمايز، فلا أدري كيف سيكون منطق المتطرفين للانفصال ورؤيتهم للشمال “المحتل”. “المظلومية” والإقصاء الذي تعرض له الجنوب طيلة فترة حكم علي عبدالله صالح، وتعرض الجنوب للفيد من توليفة شركاء الحكم، التي يدخل فيها جنوبيون أيضاً، وسياسة المَلَق المفرط الذي يحظى به الجنوب حالياً من قبل ذارفي الدموع الطارئين شمالاً وجنوباً، لا تبرر الحديث الساذج بهكذا منطق متعالٍ أهوج. أؤكد عدم اعتراضي على أي من الخيارات السياسية التي تنادي بها مختلف الأطراف، لكني لا أقر بقداسة أي منها أو ثوابتها.. والعنصرية والتطرف والتعالي ليست سجية سوية تؤسس لدولة محترمة ومجتمع متجانس ومتعايش، أياً كان شكلها وحدودها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك