الموسيقى لا تقدم لنا أية تفسيرات لهذا العالم، فكل ما نحمله من ذكرى لموسيقى معينة أو أغنية، تتماثل مع اللحظة المباشرة التي كنا نعيشها. وعندما نسمعها بعد سنوات قد تعيد لنا الذكرى الواضحة بمشاعرها، وربما نستعيد الانفعال نفسه دون ربطها عن وعي بتلك اللحظة. يمكن أن تكون كثير من الأفكار هدامة لرؤانا الجمالية، أي بما تمليه علينا من تحيزات محددة.. مع ذلك لا تخلو ذائقتنا من تحيزات، سواء صوب فنان معين، أو أنواع موسيقية بعينها، وأحياناً تحيز للموضوع.. مع ذلك تجعل العالم ممكناً بطريقتها، بما تؤسسه لنا من سعادة. عندما شاهدت الجزء الأول من فيلم «شارلوك هولمز» عام 2010، حينها حدث لي ما يشبه السقوط الكلي مع الموسيقى التصويرية للفيلم، بايقاعاتها وحيويتها البراقة، حد أنني كنت أخرج بعض الوقت عن سياق الفيلم، الذي يروي عن شارلوك هولمز المحقق الانجليزي الخارق في القرن التاسع عشر.. اغمض عيني وأنسى أنني في حضور فيلم. وبالطبع لا يعني أن تلك الموسيقى سلبية، أي تشوش على المتفرج، بل على العكس، كانت تتماثل كلياً مع طابع الفيلم المتسم بالحركة. يمكن للموسيقى أن تحكي عن ذاتها في سياق آخر، ومختلف عن سبب وجودها، لكن حين استعيد ايقاعاتها البراقة في مخيلتي بصورة مشوشة، أستعيد حركة العربة التي تجرها الخيول، في طرق مرصوفة بالحجارة، وتلك البهلوانيات السينمائية للبطل هولمز.. مع ذلك كنت بحاجة لسماعها خارج الفيلم.. وبالطبع هناك أصوات رقمية لسينما حديثة تجعل الايقاعات والأصوات تتدفق من كل مكان وتشعر أنها تحط عليك في كل مكان من جسدك. هنا أتحدث عن الموسيقى، في بلد لا يحترم الجمال.. مؤخراً اختفت سيدة هولندية وزوجها من العاصمة صنعاء.. جوديت سيدة كانت تداعب كلبها كل صباح، ومنذ أسبوع اختفى المرح الصباحي من إحدى زوايا مدينة تضج بالبارود، كما علق أحد جيرانها.. قصة جديدة من ازدهار أعمال الخطف والقتل.. لم تعد اليمن تحتفي بالزائرين. تفتقد المدن والبلدان حفاوتها بالآخر عندما تزدهر القسوة. وصنعاء ككل المدن اليمنية مرايا هائلة للعنف وضمور الأخلاق. من وراء ذلك.. من المستفيد من هذا؟ لماذا يريدون تحديد صنعاء بهوية قاتلة.. تجعلنا بلداً بلا ضمير ولا أخلاق؟ في اليمن لا توجد شخصية محقق مثل «شارلوك هولمز»، يمكنها استكشاف الجرائم.. البطل الانجليزي الذي اختلق كشخصية تعيش في القرن التاسع عشر، نبدو أننا في اليمن نعيش في مرحلة ما قبل أربعة قرون.. ما السبب الذي يجعلني أتسلق خارطة الموسيقى في بلد لا تؤمن بالموسيقى. تقول الاخبار القديمة إن اليمن كانت في عصورها الحضارية أي ما يزيد عن خمسة عشر قرناً، تعيش حالة ازدهار في الموسيقى. أما اليوم فلا معنى لحياتنا هنا.. الفنون كانت أبداً طريدة.. أتذكر شخصاً في قريتي كنا نطلق عليه اسم «الفنان» باعتبارها نقيصة أو شتيمة. في العالم للفنان معان انسانية وقيمة سامية، أما نحن في اليمن فنحتقر الجماليات.. ما يزدهر هنا سوى العنف، والبارود.. مع الوقت تتحول اليمن بلداً مزدهراً بالصراع الطائفي. تأجيج لحكاية الطائفيات، في بلد لم يعرف هذا العنف.. من المستفيد من تمزيق هذا البلد وجعله أسطورة قديمة؟ هنا، يمارس الشيخ عنفه ضد البشر.. يحتقر معاني الدولة. كما أن الموسيقى والفنون تموت مثل الأزهار، حتى الاشجار الشوكية لا نتركها تنمو.. أمين العاصمة قام بحملة دعائية في مارس من أجل غرس الاشجار.. وكل ما تم زرعه في زوايا صغيرة على ضفاف بعض الشوارع.. لا مساحات خضراء ولا موسيقى.. قلب اليمن يتصحر، كناسه.. لا يزدهر إلا القتل.. شيخ يدوس على كرامة المواطن.. عائلات حمراء، تزدهر أرصدتها، لتميت ملايين.. العبودية تزدهر من أجل كرامة سلالات مقدسة. لا أدري ماذا أكتب.. أشعر بالاحباط.. مع ذلك أعيش وأعرف أن هناك أغنية غامضة، حتى أجمل من موسيقى شارلوك هولمز ومن كثير من الأعمال، موسيقى غامضة من ثلاثة مقاطع صوتية، هي ثلاثة حروف. يمن.. ماذا تعني.. كانت تعني جنوب الكعبة.. وكانت تعني اتجاهاً يحاذي بحر العرب والبحر الأحمر.. في زاوية من آسيا، وعلى اطلالة افريقية.. فهل ستتلاشى هذه الموسيقى؟ هناك من يعرف أن اليمن ذاكرة ويحاول تحطيمها. فعندما تغيب جوديت ونساء أخريات، وحين تكون اليمن موطناً لا يرحب بالقادمين ماذا سيبقى منها، سوى وكر للأشباح.. وحدائق بارود لطوائف تقتل بعضها.. فهل نكون مجرد وطن للقتلة.. شاهدت قبل فترة طفلاً يحمل بندقاً ويجلس قرب شعار الحوثي.. على استعداد لقتل من يقترب منه.. هكذا في صنعاء، وكذلك فئات أخرى تربي أطفالاً على عقيدة مستعدة لقتل مخالفيها، فيما تموت الموسيقى، ويُجرّم الحب. رابط المقال على الفيس بوك