لن يظهر اسم عيسى كثيراً في هذه المقالة الخاتم؛ لكنه موجود دائماً في خلفية الصورة، وحيث سأتحدث عن قصة انكشاف علاقة الحمدي بالتنظيم الناصري على إثر حضوره المؤتمر الخامس، فلابد من أن أنوّه إلى سلوك كان مستقراً عند الانتخاب للمواقع العليا، حيث لا يظهر الأعضاء تطلّعاً إلى الصعود؛ فهم لا يترشحون أبداً، وإذا رشّحهم غيرهم فإنهم لا يصوتون لأنفسهم. كان هذا يعبّر عن تواضع صادق وعزوف حقيقي عند البعض، وهو عند آخرين حياء يخفي رغبةً ولهفة، مع هذا وجدت حالات نادرة لا يمنع أصحابها الخجل، وكذلك حدث بمؤتمر فرع القاهرة في فبراير 1977م وقد ذكرت أسماء الأربعة الذين جرى انتخابهم مندوبين إلى المؤتمر العام، كان مؤتمر الفرع يتكون من أحد عشر عضواً، وعلى العضو أن يكتب في ورقة التصويت أربعة أسماء، وتراوحت الأصوات بين عشرة وتسعة للفائزين الأربعة؛ غير أن اثنين رشحا بعضهما وحصلا على صوتين وثلاثة. أواخر ابريل لاحظت سفر المندوبين الأربعة إلى صنعاء في رحلات متفرقة ولكن متقاربة، وفي الفترة نفسها سافر الذي لم يكن له حظ من نجاح ذي الأصوات الثلاثة، ولأنه معروف بكونه متطلباً ملحاحاً فهمت أنه راجع عيسى وأحرجه بالترجّي؛ فلم يرَ هذا بأساً من أن يمثّل فرع القاهرة بخمسة مندوبين بدلاً من أربعة، وقد أوضحت الأسباب التي دعت مدينة الحديدة إلى انعقاد المؤتمر وتوقيته مع الاحتفال بعيد العمال حتى يتسنّى للرئيس الحمدي حضوره في غفلة من الأعين؛ لكني نسيت السبب المهم وهو أنه سيكون هناك بعيداً عن السفارات الأجنبية ومخابراتها؛ إنما اللافت حكاية شاعت وانتشرت في صفوف التنظيم بعد اغتيال ابراهيم وانكشاف صلته به؛ فقد اتخذ المؤتمر قراراً بإعدام أي عضو يكشف ذلك السر الخطير، وبعد أن رُفعت الجلسة أطلق الشهيد محمد إبراهيم نبوءته فدنا من ذلك الخامس الملحاح القادم من القاهرة وقال لمن حوله: “هذا هو الشهيد حزام” وذلك اسمه التنظيمي. كان محمد إبراهيم رجلاً يتمتع بالفطنة والذكاء والظُرف، ولو قدر للصحافي المصري محمود السعدني التعرُّف عليه ومصاحبته لضمه إلى قائمة الظرفاء الذين جمعهم في كتاب من أمتع كتبه، أذكر منهم الشاعر كامل الشناوي وعبدالحميد قطامش زميل الشلة التي كانت تتردّد على مقهى محمد عبدالله في الجيزة؛ ولذلك أخذ الميالون إلى المزاح من أعضاء المؤتمر يروّحون على أنفسهم في الاستراحات الفاصلة بين الجلسات بالتندُّر على الشهيد حزام الذي سيتم إعدامه بعد أن يكشف أعظم أسرار التنظيم وأخطرها. بعد عودته جاء في إحدى الليالي إلى مقهى زهرة الميدان، وكان دائم التردد عليه، كثير الحركة، لا يستقر في مكان ولا يكف عن الكلام، كنت أجلس وحيداً وراء طربيزة؛ فأخذ مجلسه على يميني (ليس مقابلي ولا عن يساري أتذكر تماماً) ومن غير مقدمات ومن دون ما أسأله راح يحدّثني عمن وجد في المؤتمر ومن لم يجد “لم أكن أعرف أن صهيرك عبدالله عبدالوهاب قيادي حتى رأيته في المؤتمر، عبدالملك سعيد لم يحضر.. عبدالله قاسم الدبعي” وهكذا طاف في الحاضرين فسألته: وهل حضر الحمدي؟! فهذا الجو الثرثار استحث فضولاً عندي لمعرفة الإجابة القاطعة عن سؤال يدور في خاطري منذ وقت بعيد، هل هذا الحماس من قيادة التنظيم لإبراهيم الحمدي يعبّر عن علاقة اقتراب منه أم عن ارتباط عضوي به، وقد عزّز حديث عيسى عن تجربة الحزب الشيوعي في كوبا مع كاسترو ترجيح الاحتمال الثاني، فكان هذا السؤال مني للاستيقان؛ لكنه ردّ عليّ منكراً بطريقة يتحدّد بها نوع معروف من الناس، فقد شدّ قبضة يده اليمنى وثنى ذراعه من مرفقه وهزّه بحركة سريعة وقال: “هأ.. محمد خميس حضر”. تلك السنة عدت إلى اليمن في 5 سبتمبر لقضاء ما تبقّى من إجازة الصيف؛ لكن ظروفاً خاصة أطالت مقامي إلى 11 يناير 1978م، وضمن فعاليات إحياء الذكرى الخامسة عشرة لثورة 26 سبتمبر أقيم احتفال في القصر الجمهوري منح الرئيس فيه أوسمة لبعض الشخصيات أذكر منهم عبدالله الكرشمي الذي لم يستصغر منصب الوزير بعد أن تولّى رئاسة الحكومة، وكذلك عبده نعمان قائد، مدير عام الأشغال في تعز وكان وزيراً من قبل. كانت رابطة طلاب اليمن - شمالاً وجنوباً - في جمهورية مصر العربية الشخصية الاعتبارية الوحيدة التي كرّمت في الحفل بشهادة تقدير، وكنت الوحيد من قيادتها موجوداً في صنعاء فكلّفت بتسلم الشهادة، وذهبت إلى القصر برسالة من الاتحاد العام للمغتربين ضمّت إلى جانبي ثلاثة أسماء يحضرني منهما غازي أبوبكر زميلي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وعبدالوهاب محمد غالب الطالب في كلية التجارة بجامعة صنعاء. امتلأت صالة الاحتفال بذوي البذلات وربطات العنق ونحن بالقمصان والبنطلونات، وكان عبداللطيف علي قد نصحني أن أقصر شعر رأسي المرسل قليلاً على تقليعة تلك الأيام وفعلت، ومن باب صغير في مقدمة القاعة قريباً من الركن الأيسر دخل إبراهيم يرتدي بزّة صيفية ذات لون رمادي واتجه يميناً في خطوتين ليستقيم على الزاوية خلف طربيزة صغيرة، بدا لافتاً لي أن لحيته السوداء غير حليقة، ربما من ثلاثة أيام أو أربعة، كنت وزملائي الثلاثة جالسين قبالته ونودي بالرابطة فتقدمت وصافحته وعلى طريقته ربّت بيدي اليسرى على ظهر يده وقلت له: “شد حيلك.. نحن معك” ابتسم ولم يزد على: “شكراً” كان ذلك يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين من سبتمبر، وكنت في منزل والدي بالقرية عندما استيقظت وصعدت إلى السطح فناداني جارنا ابن عمي عبدالحميد عبدالرحمن: “سمعت الأخبار.. أمس قتلوا الحمدي وعبدالله” سألت: أي عبدالله؟! قال: عبدالله الحمدي.. عدتُّ إلى الغرفة وفتحت المذياع واستيقنت من الخبر الصاعق، ظُهر اليوم التالي كُنت في تعز، وذهبت أول ما ذهبت إلى أمين قاسم محمد، وفي غرفته الملحقة بمنزل والده في شارع 26 سبتمبر تحدّثنا طويلاً بغيظ ومرارة وخوف من المستقبل، وسمعت من أمين أن الحمدي كان قد عيّن عبدالسلام مقبل في اليوم السابق على مقتله وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل والشباب... في المساء كنت مع غازي أبوبكر ذاهبين غادين في شوارع تعز والحديث نفسه والمخاوف إياها. ولحظة خروجنا من مقهى الشباب في شارع التحرير قال غازي: “أتدري أنه كان أخ، وعندما كنت تصافحه في القصر الجمهوري قلت في نفسي: إن حسن لا يعرف أنه أخونا في التنظيم” وانفلتت الألسن وراح الكثير من أعضاء التنظيم يتبادلون السر، وكلمت عبدالعزيز سلطان مدير عام التربية والتعليم (اعتقل بعد 15 أكتوبر وأبعد من الوظيفة ففتح مكتباً للمحاماة في تعز) فقال لي: “نعم واسمه التنظيمي محمد”. رجعت إلى القاهرة في يناير ورأيت ذلك المندوب الخامس فقلت له ضاحكاً: أنكرت عليّ حضور الحمدي المؤتمر وقد كان هناك. في المساء جاء عبدالوهاب منصور إلى مقر الرابطة على غير العادة. واقترب مني وتناول يدي بما يعني أنه يريدني في أمر ما. وعبدالوهاب هو أمين سر المستوى التنظيمي الذي أنا فيه أمين السر المساعد والمسئول السياسي، وبصفته تلك قادني إلى البهو الصغير وسألني عما قلت لفلان حول عضوية ابراهيم الحمدي في التنظيم. أخذتني المفاجأة فنفيت، ثم كان أول تحقيق معي ومع ذاك في شقة عبدالوهاب على شارع متفرع من شارع الدقي بحضور ياسين عبده سعيد. عندئذ حبكت قصة من حديثه معي في المقهى عن عبدالله عبدالوهاب وعبدالملك سعيد وعبدالله الدبعي وآخرين أزاحتهم السنون من ذاكرتي، رويت ما جاء يثرثر به وقلت: إنني سألته: وهل حضر محمد؟ فقال: من هو محمد؟ قلت: إبراهيم، فذهل وسأل: وكيف عرفت أن اسمه التنظيمي محمد، وأنا إنما كنت أقصد محمد ابراهيم لكن هذا التوقف بين الاسم الأول والثاني جعله يفز. حاول المحققان أن ينتزعا قولاً غيره فأصررت على ما بدا أنه كلام مستقيم، وبعد انصرافنا من جلسة التحقيق سار أمامي لا يكلمني، ساقاه متباعدتان وخطاه متمايلة، وفي لحظة التفت إليّ منفعلاً: “لو كان عندك أمانة تنظيمية كنت اتكلمت بالصدق”. لم يكن يعلم أن غازي هو الذي أخبرني ولم أكن أعرف أنه الذي أعلم غازي فأنا ما سألت هذا عن مصدره وما كان ليقول لي إذ هو شديد التكتم حتى معي أنا أقرب الناس إليه، لم يفض إليّ بسر الحمدي إلا بعد استشهاده. سوف يعترف لي غازي بعد فشل حركة اكتوبر وإعدام القيادة وانتهاء التحقيق في الموضوع بأن هذا الشخص هو نفسه الذي حدثه بما قاله لي ذلك المساء على باب مقهى الشباب بتعز. ولو عرفت ما تراجعت عن تلك الحبكة التي زادت في اضطراب شخصية ذلك الذي ثرثر ثم وشى فأخذ يدخن السجائر ويهيم في الشوارع ويشكوني عند الناس ويسبني حتى صاروا يسألونني عما فعلت به. لكنني في لحظة مراجعة مع النفس قلت: إن التزامي التنظيمي يحتم عليّ أن أقول الحقيقة حتى تعرف قيادة التنظيم الجاني والخائن فأخبرتهم. وظننت أن غازي لن يخدع التنظيم إذا سئل لما أعرفه عنه من صلابة العقيدة، إلا أنه أدهشني حين أنكر بأنه قال لي أو أنه كان يعرف الأمر. وهكذا استمر الثبات على المواقف في التحقيقات. والخلاف الآن حول ما أدعيه على غازي وما ينكره أما ذاك فقد صار أقرب إلى البراءة. جعلني تغيير أقوالي موضع شك القيادة، وفيما بعد سأعرف أن شخصاً في قيادة فرع تعز يحمل مشاعر غير ودية لعبداللطيف علي زرع الوهم لدى أعضاء القيادة التنفيذية بأنه الذي نقل لي السر لما كان بيني وبينه من ود عميق. وفي إحدى الأيام طلب مني عبدالوهاب منصور الحضور إلى منزله صباح اليوم التالي، كان سكنه قد انتقل إلى شارع متفرع من شارع السودان بمحاذاة بولاق الدكرور. افتتح الاجتماع “باسم الله وباسم الشعب العربي” وأنا بمفردي رهن التحقيق، وجاهد في أن ينتزع مني ما لا علم لي به ولما ثبت على ما قلت فتح حقيبته الدبلوماسية وتناول المسدس. قلت له بجدية: “ارجو أن تنهي الاجتماع، لأن هذا الاسلوب يمكن أن تمارسه مع غيري ممن لا يفهمون النظام الاساسي واللائحة الداخلية، فأنا أعرف أن المؤتمر العام مخول لأن يتخذ ضدي قراراً بالفصل وأما الإعدام فليس وارداً في لائحة العقوبات. والآن تهددني بمسدس وهنا في مصر التي لا يأمن فيها أحد عيون الأمن”. والحقيقة أنني لم أكن أعرف بقرار المؤتمر بالإعدام بشأن هذا الأمر، وتحرج عبدالوهاب وحاول تهدئة خواطري واعتذر لكنني صممت على عدم متابعة التحقيق وضرورة إنهاء الاجتماع ففعل. ثم جاء سالم السقاف القاهرة في رحلته إلى ليبيا كما سنعرف بعد فشل الحركة لإقناع قيادتها بدعم انقلاب يخطط له في صنعاء، وقد أخذ معه عبدالوهاب منصور وارتحل إلى مدريد ومنها إلى طرابلس.. وخلال إقامته القصيرة في القاهرة طلبنا للتحقيق في منزل عبدالوهاب، وتشبث كل منا بأقواله وقال سالم أثناء التحقيق: “الأخ زكريا يتحمل مسئولية تاريخية في تعقيد الأخ حزام” ثم وجه الكلام لي: “القيادة تعتز بالأخ زكريا وقدر قدراته وثقافته لكن ملاحظتنا عليه أنه يبالغ في المزاح وهذا لا يليق بعنصر قيادي في التنظيم” ودهشت أنه يعرف طبائعي مع أن معرفتي به قصيرة. يئس سالم من التوصل إلى الحقيقة فطلب منا السفر إلى صنعاء في الإجازة الصيفية لاستكمال التحقيق مؤكداً أن التنظيم سيوفر لنا التذاكر ويتكفل بمصروفاتنا هناك، وقد كان. ذهبنا ثلاثتنا غازي وذاك وأنا. كلفت بالاتصال بأحمد سيف حميد الشرجبي الذي استشهد مع المجموعة. سألته بعد أن تبادلنا كلمة السر هل أبقى هنا في صنعاء.. “أيوه ما انتاش عارف إيش سويت” كان ذا شخصية متجهمة وعابسة لكن تواصلي معه انقطع وانتقل الى سالم.. اعطى سالم كل واحد منا ثلاثمئة ريال وعندما جئنا (غازي وأنا) في إحدى الظهيرات للمقيل في منزله لاحظ أننا نتناول قاتاً صوتياً: “ليش تخزنوا صوتي. اشتروا قات كويس وسنزيدكم مصروف. لا تقلقوا”. استمر التحقيق دون أن يتراجع أي منا عن أقواله. والغريب أن هذا كان يتم وسط مشاغلهم في التحضير للحركة. وخابت رماحهم للأسف وذهبوا إلى الموت قبل أن يستبينوا من الحقيقة. وما دمت قد بحت باسم العليبي فالأولى أن أقول: إن حزام هو علي عبدالله سعيد الضالعي. إنما المهم هنا ذلك الإصرار على معرفة الحقيقة، ذلك التطير من القيادة التي شعرت أن التنظيم تعرض لخيانة سواء بالقصد أو بالسفه. رابط المقال على الفيس بوك