ما حدث أخيراً في مصر هو انقلاب, انقلاب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, ولا يجوز لمنصف أن يصف الأمر بغير هذا؛ إذ ماذا يعني الإطاحة برئيس منتخب ديمقراطياً ووضعه تحت الإقامة الجبرية واعتقال قيادات العمل الإسلامي !؟ وماذا يعني إغلاق كل القنوات الفضائية والوسائط الإعلامية الأخرى المؤيدة له!؟ بعد ثورة 25 يناير التي شارك فيها جميع المصريين الشرفاء احتكم الجميع لانتخابات حرة ونزيهة بإشراف كامل للقضاء المصري على ما فيه, وبرعاية الجيش المصري وحضور دولي طاغ وتغطية إعلامية مستمرة ومواكبة للحدث لحظة بلحظة, وأفرزت هذه العملية محمد مرسي رئيساً شرعياً للبلاد في الجولة الثانية.. وكانت نتيجة الاستفتاء تأكيدا ثانيا على خيار الشعب المصري وتأييده غير المباشر للرئيس الشرعي أيضاً. واجه مرسي تحديات جمة واصطدم بما بات يعرف بالدولة العميقة تلك التي تسيطر على كل شيء في البلد بحيث يغدو القول إن ما حدث بعد الانتخابات هو تسليم الإخوان للنظام السابق وليس تسلم الإخوان للسلطة قولاً على جانب كبير من الصواب. وعلى الرغم من ذلك كله حقق مرسي إنجازات مهمة وما يكفيه هنا أنه لم يكن ديكتاتورا, ولم يسجن سياسياً واحداً, بحسب اعتراف قيادي في جبهة الإنقاذ, كما شهد الإعلام المصري في عهده تحولاً وانفتاحاً وحرية على الرغم من الانتقادات اللاذعة والساخرة لشخص الرئيس نفسه في واحدة من نقاط عدم الشعور بالمسئولية التي يجب أن يؤديها الإعلام الحر والنزيه, ولكم بعد هذا أن تقارنوا الوضع الحالي بالذي قبله!. أكثر من مواجهة الدولة العميقة أو المتجذرة واجه الرجل معارضة بدا أنها كانت مستميتة على إسقاطه فحسب وإسقاط المشروع الإسلامي من خلفه الناهض بقوة وبسرعة كبيرتين؛ ما يؤكد هذا هو التوقيت الزمني لمعارضتهم للحكم؛ إذ كانت الدعوة لإسقاطه باكرة جداً, كما أن في دعوتهم للجيش ليتدخل دليلا إضافيا آخر على هذا الزعم, وهم الذين ظلوا كثيرا ينادون: لا لعسكرة الثورة . لا تعترف هذه المعارضة إذن بالديمقراطية سبيلاً للتغيير طالما لم تفرزهم هم وحدهم. وليس من الغريب بعد هذا أن تضع هذه المعارضة أيديها بأيدي من ثاروا عليهم بالأمس القريب. وما يؤسف له حقاً أن ما حدث كان بمباركة بعض الأنظمة التي لا تريد لمصر أن تفوق من كبوتها وعثرتها التي طالت, وتستعيد دورها الأكثر أهمية, وأن تكون دولة ديمقراطية في المنطقة, وتلك حقيقة تفضحها تصرفات هذه الدول وفلتات ألسنتهم ومالهم المدنس الذي راحوا يصبونه صباً في أرض الكنانة حتى ليقال أزيد من هذا حين تحدث البعض عن إرسال مواطنين من هذه الدول لتكثير سواد المتظاهرين ضد الشرعية. واضح إذن أن هناك متربصين كثراً بالثورة الأهم في المنطقة, وواضح أن الجيش لم يكن عند مستوى المسئولية الملقاة على عاتقه بوصفه جيشاً لكل المصريين ويجب عليه الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف. على عكس ذلك تماماً فعل الجيش المصري؛ إذ أعلن انحيازه الواضح والجلي للمتظاهرين ضد الشرعية ضارباً برأي الجزء الأكبر من الشعب عرض دباباته ومصفحاته .. لم يطلق هذا الجيش رصاصة واحدة على المتظاهرين على السلطات القائمة والمنتخبة بإرادة المصريين حتى وهم يستعملون القوة ويقتلون الناس ويعتلون أبواب قصر الاتحادية ويخلعون بوابته الرئيسة, أزيد من ذلك راح يوجه سلاحه ضد المؤيدين وبغزارة فأين الحياد إذن, وأين شرف الجندية والعسكرية!؟ وبعد.. دعونا نسلم لهم جدلاً أن مرسي وقع في أخطاء, ولكن ما الحاجة لتهييج الناس بتلك الطريقة العنيفة والقوية, طالما والجميع احتكم للديمقراطية ورضي بها سبيلاً للتغيير والإصلاح!؟ ألم أقل لكم قبل قليل إن جبهة الإنقاذ لا تعترف بالديمقراطية سبيلاً للوصول إلى الحكم طالما لم تأت بهم!؟ يخوفون الناس بالإخوان ويصورونهم وحوشاً كاسرة تأكل لحوم الناس لكأنهم غير بشر في الوقت الذي يثبت فيه الإخوان أنهم جزء مهم من الشعب يؤمنون بالديمقراطية سبيلاً للتغيير ولا يلجأون إلى العنف, وبالأمس القريب كانوا يصورونهم بوصفهم مجموعة دراويش لا يفقهون في السياسة شيئاً, ولما لم تعد تنطلي هذه التهم على أحد خاصة بعد نجاح المشروع الإسلامي في ماليزيا بقيادة مهاتير محمد والتركي بقيادة أردوغان لجأوا غير موفقين إلى العنف والقوة واستعداء الناس عليهم وذلك يكشف فيما يكشف عن عجز خصوم التيار الإسلامي عن إقناع الناس وكسبهم وتقديم خدمة حقيقية لهم!. المؤكد أن تصرفات الجبهة والعسكر قد أدت خدمة مهمة لأصحاب المشروع الإسلامي من حيث أرادوا أن يضروهم؛ إذ زادوا تعاطف الناس معهم وكشفت لهم أن الإخوان بالفعل أصحاب مشروع حضاري مهم, لا يؤمنون بالعنف, وأن من يؤمن بالعنف هم أولئك الذين ملأوا الدنيا صراخاً وضجيجاً عن المدنية والديمقراطية والحداثة, لقد تعرى هؤلاء على نحو أشد. لم يخسر الإسلاميون شيئاً إذن ويقيناً أن مشروعهم هو الأكثر حظاً ومصداقية وهذا ما سيجعلهم يعودون إلى الحكم بقوة وخبرة كبيرتين.. علينا هنا أن نتذكر جيداً التجربة التركية “وستذكرون ما أقول لكم”. رابط المقال على القيس بوك