يربط الكثيرون بين الليل والظلام؛ مع أنه لا تشابه بينهما، وهناك فارق كبير، فالليل كائن لطيف يحمل في جوفه النور والأسرار والفرص الذهبية للوصول إلى المعارف والاقتراب من السماء والخالق جل وعلا، بينما الظلام حالة معتمة تمثّل عمى في الروح والنفس, وقد يوجد الظلام في وضح النهار ويلازم النفس مع وجود النار والأضواء من حولك. الظلام حالة موحشة وبغيظة، بينما الليل كائن مؤنس وجميل، ولا يوجد أجمل ولا أبهى من الليل والأسحار ونجومه المتلالئة وتأملاته التي تعطيك فرصة عزيزة للتفكر وعبادة التأمل ومخاطبة النجوم والفضاء الرحب والتناغم مع السكون والصمت الذي يحمل في جوفه جواهر الحكم ومترادفات المعرفة. الليل صديق المحبين والعاشقين والعارفين والتائبين والشعراء والحكماء وساحة نور للعبادة والذكر والمناجاة، وكم من مريدين محبين لليل ومناجاة الليل وعشق الليل وصحراء الليل وسماء الليل وسكونه الذي ينطق بما لا ينطق به. الليل نافذة نفذ منها العربي البدوي ليبدع ويقترب من الحقيقة بفطرته، ومن هذه النافذة التأملية سمعنا «قس بن ساعدة» وهو ينثر حكمه مثل «أيها الناس من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في الأرض لعبراً، وإن في السماء لخبراً, سحائب تمور ونجوم تغور في فلك يدور.. يقسم قسماً أن لله ديناً خيراً من دونكم هذا...». وكثير من الحكم والشعر والجواهر استخرجها الحكماء من بحر الليل وصفحته البيضاء الرائعة الجمال، فلا شبه يا صديقي بين الليل والظلام، ومن الجهل أن تربط بينهما في حال، فقد تجد الظلم الذي هو لب الظلمات في النهار وليس في الليل، وقد ترى الظلمات المتراكمة في نفوس الناس في رابعة النهار، ولا دخل ولا صلة لليل في الظلام والظلمات. الليل مسافر بري ينادي بالناس كل لحظة أن تعالوا معاً نتأمل ونبحر نحو السماء والحكمة ونتجاوز الزوال، ونعرف كم نحن مسافرون وزائلون وأن الدنيا بكل مباهجها لا تستحق فرحة ولا بسمة، وبكل ألمها ومصائبها لا تستحق حزناً عليها ولا دمعة واحدة، فكل شيء فيها بحكم لا شيء هنا، وكل ما فوق التراب تراب.. يكاد الليل أن يكون الناطق الرسمي باسم الكائنات التي تربطنا بها علاقة حميمية. قابلت وأقابل كثيراً من أصدقائي وأصحابي الطيبين المبثوثين في الكون لي معهم أسمار ولقاءات، نعم قابلت وتفحّصت وجوه النهار والنجوم والقمر والضياء والشمس والناس والحجر والشجر والماء والطير والنمل والنحل والنار والتراب والريح والهواء والبحر ونسيمه، والسحاب والرعد والبرق والغمام، وكل هذه الأشياء تربطنا بهم علاقة وشبه ما، لكنني لم أجد أكثر تفهماً وحناناً من الليل وكأنه أخذ تفويضاً من الكائنات ليكون ممثلهم عند الإنسان، لذا فهو وحده من يفتح جناحيه ليحتضنني ويضمّني بحنان الأمهات وحب الآباء وعبرة الزمان، محاولاً أخذي ببساط الريح وجناح الغمامة إلى الأعلى، إلى تحت العرش، حيث شبابتي هناك تترنم بجمال الكون وتسبّح الواحد الأحد مع السموات والأرض والمجرّات والذرّات، تسبح بحمده وجلاله. ...لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك