الواضح ان امريكا لم تكن تنتظر حتى نتائج التحقيقات بشأن الكيماوي في سوريا، فبدأت تدشن طريق التدخل. في سوريا، تمارس واشنطن حرباً قذرة، وترسم مستقبلاً مرعباً للمنطقة، بدعمها الأصوليات، خصوصاً عندما نعرف أنها تغاضت عن استخدام الجهاديين اسلحة كيماوية، عن طريق تركيا. فمن غير المعقول ان يقوم النظام السوري باستخدام اسلحة كيماوية، هذا إذا كان قد تم استخدامه. فمن الناحية الاستراتيجية لن يحقق النظام السوري أي نجاح. خصوصاً أن الصور التي روت لنا الحادثة، اظهرت صور اطفال وعائلات. كما ان استخدام الكيماوي لن يخدم النظام، بل سيكون على عكس ذلك، في غير صالحهم. فكيف لنظام لا يحظى بأي غطاء دولي، وتشن عليه الولاياتالمتحدة واوروبا مع حلفائها في المنطقة حرباً عبر تسليح المعارضين له، أن يقدم على حماقة كتلك. الاحداث تروي لنا من له مصلحة في استخدام كيماوي، أو في تلفيق ذلك للنظام، إنها الاطراف التي تنوي اليوم التدخل لضرب سوريا. قد نكون بحاجة لتجنب الاصوات المشوشة علينا، ذلك الاسلوب الرخيص في استدعاء تعاطف غير محكم بعقل. من منا يستطيع تغافل صور القتلى، خصوصاً من الاطفال والعزل. غير انه منذ وقت غير بعيد، بدأ الكثير منا يتفهم ما يحدث في سوريا كحرب قذرة، واطراف تعمل لتحقيق غايات لا تخدم المجتمع السوري. سنعود قليلاً للماضي، عندما قال بوش الابن: إن جيشه سيذهب لإسقاط ديكتاتور العراق صدام حسين، ويهدي الديمقراطية. أول اجراء اتخذه الاحتلال تسريح الجيش العراقي، وبناء جيش طائفي أو ميليشيات طائفية تمارس تصفية حسابات على أساس مذهبي. ما قامت به واشنطن في العراق لم يكن خطأ في الاستراتيجية الامريكية، بل مقصود. وما يؤكده السيناريو الذي تحاول واشنطن جلبه للمنطقة. فعندما استخدم الرئيس المصري السابق محمد مرسي لفظ “الرافضة” وهو اللفظ الذي يكرس الصراع السني- الشيعي. مارس هذا الوجه الطائفي التي تحاول ان تؤول إليه المنطقة برسم نتجه إليه غير مدركين لمخاطره. والثورة السورية انتكست وطنياً عندما بدأت تستخدم دلالات طائفية، وبدأ الخطاب يركز على استدعاء المدلولات الطائفية. فبدلاً من التأكيد على الهوية الوطنية، بدأ استخدام توصيفات مذهبية ضد العلويين. وتم استقدام مجاهدين من كل انحاء العالم. ألا يذكرنا ذلك بما حدث في افغانستان. كان هناك تركيز على ضرب ما تبقى من هوية وطنية وقومية في البلدان العربية. ويبدو ان هذا المآل سيسوق سوريا إلى مجتمع منقسم على اساس طائفي. فقبل عام كتبت مقالة بعنوان “شرق اوسط جديد او خارطة طائفية” تحدثت فيه عن الشرق الاوسط الذي عنته امريكا هو هذا التقسيم الطائفي. وهذا لن يرحم حتى حلفاء الولاياتالمتحدة التاريخيين في المنطقة. خصوصا في البلدان التي ينقسم سكانها مذهبياً. في البحرين اتخذت الثورة وجهة شيعية، والسبب سقوط اليسار الذي كان يتكئ على خطاب وطني. كما ان سقوط اليسار في العراق نتيجة قمع البعث وصدام حسين أعطى فرصة لتوهج المحفزات الطائفية. كانت مصر مهددة ايضاً بظهور البعد الطائفي على صعيد واسع. عندما قتل عدد من الاقباط في احداث ماسبيرو، ابدت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون، استعداد بلدها للتدخل من اجل حماية الاقباط. كان رد البابا السابق شنودة، بأنه إذا ستتدخل امريكا لحمايتهم فليمت كل الأقباط. ويبدو أن الهوية الوطنية في مصر حتى اليوم هي الأكثر قدرة على الصمود. بينما نحن في اليمن نعاني من تقسيمات قبلية ومناطقية قادرة على كسرنا وتمزيقنا إلى اجزاء متعددة. لكن لماذا السياسة الامريكية تصر على دعم هذه الوجهة الطائفية في المنطقة، ما مصلحتها من ذلك؟ بالنسبة لي الأمر غير مفهوم. صحيح ان هناك عدداً من الغايات تستطيع واشنطن تحقيقها. إعادة رسم المنطقة بتقسيمات جديدة. في السودان، حكم البشير الديني ساهم في تقسيم بلده. كان البعد الوطني أو القومي في السابق يحمي الاوطان من التقسيمات. قال لي شخص: إن القومية سقطت منذ فترة بعيدة أو اكدت فشلها. في الواقع، كان سقوط أي مشروع سياسي في المنطقة لا علاقة له بالراديكالية، بل بعوامل مادية، فشل على صعيد تنموي، في التعليم وفي تأسيس قيم وطنية. فالمجتمعات التي تنجح اقتصاديا وتبني مجتمعها تعليمياً ستحقق انتقالاً إلى الديمقراطية بصورة انسيابية. فلا يعني الفشل ان البديل الصالح هو الاصولية الاسلامية. لأن فشلها في افغانستان دلالة اكيدة على انها فقدت اهليتها منذ عقود. لكن من له مصلحة في بقائها هي نفس القوى التي استخدمتها هناك وتستخدمها اليوم. لكن لماذا امريكا لا تأبه لأي تطورات، وهي ترسم خارطة طائفية وحدود جديدة في منطقة مؤهلة لاشتعال اكثر؟. فاضطراب المنطقة لن يجعل المحيط في مأمن من تداعياتها. صديق امريكي عندما انتقدت السياسة الامريكية في المنطقة، رد صديقي الامريكي مدافعاً أن امريكا محمية وراء المحيطات. لكن اوروبا ليست بعيدة عن تلك التداعيات، كيف تسمح اوروبا لنفسها بالانقياد الأعمى وراء سياسة امريكا؟ كيف سقطت روما؟ لأنها لم تعد قادرة على صد هجمات البرابرة الشماليين. وإن حققت واشنطن مصالحها لزمن، فقد سقطت هالتها كبلد الحريات والحقوق، كما تؤكد أنها في زمن القطب الواحد، لم تعد تفكر كثيراً بل تستخف بإصدار القوة. وعندما تزداد الفوضى فهذا سيجعلها غير مؤهلة لأن تكون وحيدة. لأن الزمن أيضاً ينتج بدائله، والامبراطوريات تدب فيها عوامل التحلل والتآكل لحظات القوة، فهي لا تفكر كثيراً لما ستقدم عليه، لكنها تثق من النتيجة. والنتيجة ليست مضمونة إلا على مدى قريب، لأن الزمن مراوغ. وعندما نستمع لتصريحات السفير الامريكي في صنعاء، ندرك ان رأس السياسة في امريكا يفكر قليلاً، بينما تعمل كثيراً ، بل تجد نفسها دائماً مطالبة بأن تعمل. رابط المقال على الفيس بوك