بدا واضحًا مع هذه المتغيرات الأخيرة أن السياسة العربية دخلت منعطفًا جديدًا في تاريخها الحديث, وذلك من حيث إدارة الأنظمة الحاكمة للمواقف وطبيعة علاقة سياساتهم بسياسات المجتمع الدولي, لاسيما فيما يتعلّق بالمواقف الحسّاسة من الاحتجاجات الشعبية وأساليب الضغط بالاعتصام وابتكار الحشود لإيصال الرسالة المطلوبة إلى العالم في زمن الإعلام الحر والفضاء المفتوح, إضافةً إلى آخر مواقفها المتمثلة بالموقف من الديمقراطية والنُخب المعارضة والدستور، وشرعية بعض الأنظمة الحاكمة. استمرت الغالبية من الأنظمة الجاثمة تحت قبة الجامعة العربية تتعاطى مواقف مطاطة حيال القضايا العربية العادلة، ربما كان لبعض الأنظمة مواقف حادة سلبية أو إيجابية حيال قضايا بارزة لها تأثير على علاقة هذه الأنظمة ببعضها أو حتى علاقة الشعوب العربية ببعضها, لكن المواقف العربية الرسمية في مجملها ظلت حتى وقت قريب تحافظ على صبغتها السياسية أمام الجماهير العربية وإن كانت في الخفاء تتبنّى ما يخالف ذلك. أما اليوم فإن بعض المتغيرات في الساحة أحدثت ما يشبه الانفجار الهائل في مفاعل السياسة العربية بمباركة ومشاركة من الجامعة العربية, فهذا الربيع المباغت جعل بعض الأنظمة العربية تشعر أن المنطقة قد تقبل أي تحولات، وأنها بذلك أمام معارك مصيرية, وهو الشعور الذي أفقدها القدرة على ضبط النفس والتخلّي عن ممارسة سياستها في المنطقة بذلك الحذر المعهود, أو بذلك الإلباس الذي كان يحفظ لها هيبتها أمام الجمهور العربي. ففي مواقفه منذ اندلاع الأزمة السورية وحتى الإطاحة بالنظام المنتخب في مصر وما تلاه من أحداث, وأيضًا محاولات الإطاحة بالنظام التونسي الجديد؛ بدا الوجه البارز للسياسة العربية متناقضًا يتعامل بمعايير مزدوجة, وكأنه متشبّع برغبة جامحة لممارسة اللا سياسة, لاسيما وهو يحاول إقناع الشارع العربي بخيار واحد هو الخيار الأمني لإدارة الخلاف بين الفرقاء, دون إضافة ملعقة واحدة من دقيق السياسة. وليس من شك في أن هذا الانحراف نحو اللا سياسة يعد تحوّلاً خطيرًا ينبغي أن يعيد النظر المفتونون به اليوم والداعمون له؛ لأنه سيفقد المنطقة العربية شوكة الميزان التي كانت تعود إليها الأطراف المتصارعة لحل الخلافات. ومن المؤكد أن الاستمرار في مواجهة كثير من الجماهير العربية بهذا الموقف المنحاز إلى طرف دون آخر سيعزّز موجات الكراهية بين أبناء الأمة وبين الأنظمة وشعوبها وبين الشعوب مع بعضها وبين الأنظمة مع بعضها, وهذا بالتأكيد ليس من صالح المستقبل الذي تنشده شعوب المنطقة؛ لأن التخندق ضد الآخر المخالف في الرأي ومحاولة طمسه من الخارطة السياسية والاجتماعية يدفع المنطقة في اتجاه العصبيات والتأويلات المنفعلة للنصوص الدينية والسِّيَر وأحداث التاريخ من أجل تشريع اللجوء إلى العنف بدافع النصرة والثأر ورد الكيد, وهذا إن لم يكن اليوم فغدًا. فلتنتبهوا إذن يا عقلاء العرب وحكماءهم, ولتنظروا إلى حالنا منذ سنوات مع الجماعات الإسلامية المتشددة والتنظيمات الإرهابية المنتشرة في المنطقة كانتشار النار في الهشيم, فكيف إذن ونحن ندشن اليوم عهدًا جديدًا من الكراهية والتحيُّز والإقصاء وتجهيز تهمة «الإرهاب» لفصيل سياسي له قواعده وله مؤيدوه وله متعاطفون معه بعدما وقع عليه ما وقع من إزاحة وتنكيل, وقد كان بالأمس شريكًا في عملية ديمقراطية اقتنعت بها جماهير عربية غفيرة, ومن المخجل أن تجري في تونس محاولات لتطبيق السيناريو نفسه..؟!. ينبغي أن نتعلّم من السياسة الأمريكية كيف تجيد التعمية والتمويه وعدم الوضوح؛ لأنها حريصة على عدم الفجور في الخصومة مع من تعاديه وإن كان عدوًا تاريخيًا وليس مرحليًا, فهي تدرك أهمية بقاء خط تواصل مع كل الأطراف بما تقتضيه مصالحها. أما الوجوه البارزة للسياسة العربية فإنها اليوم تختار الحدّة في الموقف، مع أن الذي يربطها بجميع الأطراف المتصارعة في مصر وتونس – مثلاً – أكثر من المصالح, فهناك روابط الدين والأخوّة والجوار وغيره, وهذا يقتضي من ساسة العرب أن يديروا مواقفهم من الأزمة في هذين البلدين على أساس القاعدة القرآنية: (وإن طائفتان من المؤمنين...), والمقصود ضرورة الخروج من مأزق اللا سياسة الذي جاءت به حسابات خاطئة وغير مدروسة تغري كثيرين بنجاعة الخيار الأمني لحسم الخلاف السياسي بين الفرقاء. لابد من العودة إلى السياسة, فهي التي تجمع الفرقاء للخروج بحلول ترضي الجميع وتحقّق الاستقرار والسكينة, وبالتالي تستعيد الشعوب العربية خط سيرها نحو المستقبل المنشود بأمن وسلام. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك