بما لا يحتاج إلى عناء.. يتضح للباحث عدم جدوى فكرة الاعتماد على القبيلة بالامتيازات والنفوذ، في إحداث تغيير سياسي مطلوب، أو تثبيت نظام حكم ومؤازرة سلطة.. ليس لأن القبيلة لا تأثير لها ولا جماهيرية، ولكن لأن الكسب أو الإغراء بالامتيازات والنفوذ المحصور على الرؤوس تختلف عن الكسب عبر الاقناع والوصول إلى القبيلة بوسائل الاتصال الجماهيري والتلاحم معها كجماهير لها تطلعاتها وميلها نحو مواطنة متساوية أمام الشرع والقانون.. وهذا ما فطن إليه الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي الذي كسب القبيلة إلى صفه عبر اطروحاته في إنهاء كل نفوذ خارج عن الدولة التي يتساوى أمامها الشيخ والفلاح، والوزير والمواطن.. فجعل من القبيلة قوة وسنداً في مواجهة نفوذ مشائخها، كما فطن إلى ذلك من قبله الإمام أحمد حميد الدين، حيث كانت تأتيه القبيلة برؤوس مناوئيه وخصومه، أو تلقي عليهم القبض لتسليمهم إليه لسجنهم وإعدامهم -وإن كانوا من شيوخ القبائل، والرؤوس الكبيرة للقبيلة- أما لماذا فلأسباب منها أن كسب ود القبيلة بالامتيازات والنفوذ هو بمثابة النار التي تطلب المزيد من الأحطاب لتلتهمها، كما جاء في قصيدة للإمام أحمد سبقت الإشارة إليها.. ولأن فكرة كسب ود وولاء القبيلة من خلال بعض الرؤوس القبلية الكبيرة سيف له حدان كالخنجر اليمني، حدٌ يُولِّد التذمر لدى عامة أفراد الشعب وأولهم أبناء الفقراء من أبناء القبيلة، وحدٌ يولِّد احقية طلب المماثلة لدى شيوخ وكبار القبائل الذين لم تشملهم امتيازات الحاكم، وعطايا الدولة ودرجات النفوذ.. وهذا ما حصل بعد ثورة ال26 من سبتمبر، حيث انحاز بدافع طلب المماثلة والتذمر أعداد غير قليل من أفراد ومشائخ القبائل، إلى الصف الملكي الذي تمكن من أن يفتح بهم أربعين جبهة لمحاربة الثورة والجمهورية، ولولا دعم مصر عبدالناصر وجيوشها لحدثت انتكاسة قد لا تقل عن سابقاتها.. وهناك من يعرف كيف تحول الشيخ ناجي بن علي الغادر من مقاومٍ للإمام ونظامه الملكي، إلى صف المقاتلين لإسقاط النظام الجمهوري.. وما بدر من كثيرين أمثاله.. مثال آخر من أمثلة عدم جدوى الفكرة المشار إليها، نستمده من فترة المشير عبدالله السلام أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، وكيف تجاوب مع الداعين أو المؤمنين بفكرة احتواء وكسب القبيلة عن طريق الامتيازات التي تمنح لشيوخها، وكيف تم التأسيس لذلك منذ الشهر الأول لقيام ثورة سبتمبر، إلاّ أنه ما إن اصطدم بمصالحهم المتزايدة أو بإطعام النار التي تطلب المزيد من الأحطاب لالتهامها، حتى كانت القبيلة في طليعة الداعمين والمساندين لمن أحاطوا به في الخامس من نوفمبر 1967م(1). وإذا ما كان خَلَفَه القاضي عبدالرحمن الإرياني، من المتحمسين لفكرة أو توجه استمالة وكسب القبيلة -إن لم نقل واضع بذرتها في رحم الدولة- فإن هذا لم يشفع له عند النار المتلهفة للمزيد من الأحطاب.. إذ كان للقبيلة ونفوذها الدور الفاعل في الإطاحة به، كما تدل الشواهد ومنها استقالة الأستاذ أحمد محمد نعمان التي جاء فيها بأنه لا يستطيع البقاء في سلطة أو في دولة يسمع فيها بأذنه من يهدد رئيس الدولة، وفي هذا إشارة إلى ما ازبَدَتْ وأرعَدت به بعض الرؤوس القبلية مهددةً ومتوعدة وأنها ستملأ صنعاء بأحذية الحشود القبلية، وجاءت مرحلة جديدة مع الحركة التصحيحية بقيادة العقيد إبراهيم الحمدي في ال13 من يونيو 1974م وتشكل مجلس القيادة برئاسة الرئيس إبراهيم الحمدي وعضوية تسعة من الضباط والساسة والمشائخ الضباط كإجراء نابع من التطمين للقوى القبلية المتغلغلة في الدولة.. وتكتيك مرحلي حتى يحين المناخ والوقت المناسب للتخلص من تلك القوى التي كانت قناعة الرئيس الحمدي تعيد إليها كل ما لحق بالدولة من ضعف واختلالات وفساد، ولاختصار رؤيته بل وقناعته في هذا الأمر أكتفي بما سمعته -في حديث دار بينه وبين والدي- حيث جاء في حديثه قوله أن ما لحق بالدولة من أضرار وتخريب خلال عام واحد من سلطة الاعتماد على القبيلة وكسب ولائها بالامتيازات والنفوذ يفوق ما لحق بها طيلة سبعين عاماً من حكم آل حميد الدين.. وأنه قد ورث من الألغام -يقصد مخلفات ذلك التوجه- ما إذا استطاع نزعها في عشرة أعوام، فكثر الله خيره. أخذ الرئيس الحمدي -رحمه الله- في تنفيذ هدف إزاحة النفوذ القبلي من هيكل الدولة ومهامها ابتداء بتقليص مجلس القيادة الذي استبعد منه المنتمين مشائخياً.. كما استبعد أمثالهم من الضباط في القيادات العسكرية والمواقع الحساسة في الدولة.. أخذاً في استمالة القبيلة من خلال أبنائها من البسطاء والفلاحين ومن ألهب لديهم -بخطاباته الجماهيرية- نزعة التذمر من الامتيازات ومكاسب النفوذ التي حصل عليها المشائخ باسم أبناء القبائل الذين حرموا حتى من التعليم.. وعمل على أن يلمس أبناء القبائل أن هناك دولة بحركة تصحيحية يتساوى أمامها الشيخ وأصغر فلاح في القبيلة.. مستغلاً كل ما يلوح -وإن كان صغيراً- لإثبات ذلك، كما حدث مع كبير ورأس قبيلة قيفه الشيخ أحمد ناصر الذهب، الذي سارع الحمدي إلى تحريك حملة عسكرية تأديبية نحوه.. لتهدم بيته وتشرده من قريته وقبيلته -التي لم يدخلها إلاّ بعد استشهاد الحمدي- وكل ذلك بسبب خلاف نشب بين الشيخ وبين جار له من أبناء القبيلة بسبب صوت الراديو الذي كان ينبعث من نافذة جار الشيخ الذي أقدم على إسكاته بطلقة نارية في جهاز الراديو.. وهكذا أراد الرئيس الحمدي أن يكسب ولاء وحب القبيلة عبر قاعدتها لا رؤوسها وبمشاعر المساواة ورفع الظلم، لا بالامتيازات والنفوذ المتعارض مع دولة لها هيبتها وكلمتها.. ولا تخفى على من عاصروا فترة حكمه -في سنواتها الثلاث- خلافاته مع المشائخ كالشيخ منصور شائف في تعز والشيخ سنان أبو لحوم والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي آثر بحكمته ورزانته الابتعاد عن الصدام والتواري في معقل أسرته في العصيمات بحاشد، مبتعداً عن صنعاء التي لم يدخلها إلاّ بعد مقتل الرئيس أحمد الغشمي -كما أعتقد- وتولي الرئيس علي عبدالله صالح وهما من ستكون فترة حكمهما موضوع لقائنا القادم عن الامتيازات والنفوذ القبلي.. إلى اللقاء. (1) انظر: حركة 13 يونيو في مذكرات الشيخ سنان أبو لحوم وفي مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر. رابط المقال على الفيس بوك