ما يعتمل اليوم في مناطق عِدة في اليمن من صراع واقتتال ذهب ضحيته العشرات من الأبرياء سواء في «الرضمة - إب» أو «حاشد».. وقبلها في «صعدة والجوف وعمران وحجة ومأرب» يمثل امتداداً للصراعات المغلفة بالمذهبية والتي سيكون لها نتائج كارثية وتأثيرات سلبية على الصعيد الوطني والإقليمي، وسيكون من الصعب معالجتها والتخلّص منها إلّا بثمن باهظ.. وحساسية الموقف في هذا الصراع يحتم بالضرورة احتواء المشكلة ومعالجة أسبابها الطارئة بأي ثمن كان وأي وسيلة ممكنة، فالتفاعلات المعتملة على الأرض وفي الوجدان الشعبي والتجييش المتواصل للمليشيات المسلحة تقتضي بالضرورة تكاتف وتظافر الجهود الوطنية «الرسمية والشعبية والحزبية والمجتمعية» لمحاصرة الفتنة في أضيق نطاق ممكن وإخماد شررها المتطاير قبل أن يندلع اللهب وتمتد نيران هذا الصراع إلى خارج إطارها المكاني والزماني وتجر الوطن إلى أتونها المدمرة، وقبل كل ذلك وبعده ضرورة بسط نفوذ الدولة في المناطق التي تشهد الصدامات المسلحة وتواجد قواتها بدلاً من المليشيات المسلحة، وتطبيق النظام والقانون على الجميع. ولأن القضية لها وجهان «سياسي ومذهبي» فإن المعالجات على الصعيد الوطني ينبغي لها أن تتخذ مسارين: مسار ديني: وهذا منوط بورثة الأنبياء، علماء هذا الوطن المعتدلين المتزنين من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية الفقهية، فهم وحدهم القادرون والمخولون شرعاً بالاجتهاد والعمل الجماعي الإبداعي لتطوير فقه الواقع واستنباط المعالجات والحلول باعتماد مناهج السلف وإبداعاتهم واجتهاداتهم عبر مختلف المراحل، والعمل في الوقت ذاته على تطوير مناهج وأساليب حديثة للتعامل مع هذه الإشكالية المعقدة بفكر ديني مستنير متجدد ووسائل وأدوات وخيارات واقعية معاصرة تشترطها المرحلة الراهنة, وتعزز من قيم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وما أجمع عليه الشعب من مبادئ وثوابت اعتمدها كمرجعية وضعية مرحلية وجسدها في دستوره وعقده الاجتماعي المجمع عليه. إن التعاطي مع قضية الاختلافات المذهبية وتداعياتها السياسية والأمنية لا يمكن له أن يظل أسير قوالب ونصوص فكرية وعقائدية جامدة أو تأويلات قاصرة وخاطئة للنص الديني أو التوظيف السياسي الإنتقائي للواقع والأحداث التاريخية ومسيرة الصحابة والأئمة وإرثهم الفكري وتوظيفه خارج إطار سياقه التاريخي والاجتماعي.. فالمصالحات الناجحة والمطلوبة لابد لها أن تنبع من معطيات الواقع المباشر ومعالجة الأسباب والجذور الحقيقية لهذه الإشكالية باستشفاف المبادئ والآليات المنهجية الناجعة لمعالجة الاختلافات، وهذا لن يتحقق إلّا من خلال إجماع أهل العلم والمفكرين في اليمن من مختلف المدارس الفكرية والفقهية في إيجاد المعالجات الشرعية والفقهية للقضايا المذهبية المختلف حولها والأخذ بالمبادئ الأخلاقية والخيارات السياسية الديمقراطية المتعارف والمجمع عليها في الدستور والأعراف السائدة المعمول بها في واقعنا الوطني وأبرزها مبدأ الحرية المذهبية والتعايش السلمي والاعتراف المتبادل بين المذاهب والفرق والجماعات الدينية المختلفة. مسار سياسي: الإشكالية التي ينبغي الوقوف عليها ومعالجتها في هذا الجانب مرتبطة بطبيعة وجدلية العلاقة بين السياسة والدين في مجتمع مسلم وفي ظل ديمقراطية تعددية سياسية وحزبية، وقد تجلت الإشكالية خلال الفترة المنصرمة في تسييس الدين عوضاً عن تديين السياسة، وتسبب ذلك في سطوة سياسية غير مسبوقة على الدين ومحاولة احتكاره لصالح تيارات ترتدي عباءة الدين وامتهنت أساليب توظيف الخطاب والنص الديني في خدمة مصالح حزبية وقضايا سياسية دنيوية آنية. ما يحتاجه الواقع اليمني الراهن هو عملية فرز لحقائق الاختلاف والتناقض بين السياسة بكل ما فيها من ممارسات غير أخلاقية تحكمها قوانين وشروط وضعية واتفاقات وتحالفات وتوازنات قد تتغير وتتبدل مضامينها بتبدل المراحل وقواها الاجتماعية ووسائلها وأساليبها وأسلحتها ومصالحها وأهدافها، وبين الدين كقيم وممارسات وتشريعات وحقوق وواجبات ربانية ثابتة صالحة لكل مكان وزمان تحتم على كل علماء الدين الحقيقيين أن يكونوا منزّهين من أية انتماءات أو ولاءات حزبية ضيقة تؤثر على مواقفهم ورؤاهم وقناعاتهم التي ينبغي لها أن تكون لله ثم للدين والأمة الإسلامية ولوطنهم. الشعب اليمني شعب مسلم، تتعدد وتختلف فيه التوجهات والانتماءات والبرامج الحزبية، ولا يحق لأي طرف أن يدّعي احتكار الدين لذاته، أو التفرّد باستخدامه لخدمة أغراضه الحزبية والسياسية.. ما نحتاجه بالأصح هو تديين السياسة، أي إضفاء القيم والمبادئ والأخلاقيات والمُثل الدينية كما جاءت في القرآن والسنة على الممارسة السياسية الديمقراطية كثقافة وسلوك وأهداف وبرامج.. ومما لاشك فيه أن اعتماد الدين والشرع وصياغة الأهداف والبرامج والغايات الاستراتيجية سيجعل منها أداة في خدمة الدين وتحقيق مبادئه وتعالميه السمحة ورسالته الإنسانية في الإعمار والبناء الحضاري المادي والبشري وتحقيق السلم والأمن والاستقرار، وترسيخ مبادئ الوسطية والاعتدال والحوار والتسامح والاعتراف المتبادل وممارسة الحريات الدينية والمدنية والديمقراطية ضمن سياقها الديني المجسد للمعطيات الحضارية والرسالة الإنسانية والأخلاقية والتواصلية المتجددة التي لا تخرج في سياقاتها الثقافية والمعرفية والتنموية عن الإطار الإسلامي العام. رابط المقال على الفيس بوك