تقدم كل دعوة إلى تغيير المجتمع وعداً للناس بمستقبل أفضل, حتى رسالات الله قدمت هذا الوعد الذي لم يكن فقط وعداً غيبياً وأخروياً بل كان هذا وقبله وعداً واقعياً وفي حياة الناس, قال تعالى: «ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين» القصص, الآية 5. و سنتحدث هنا بعيداً عن الوعد الديني للناس, لأن موضوعنا محدد باليسار, واليسار الجديد تحديداً رغم أن تنوع تكوينات هذا التيار تتضمن يساراً إسلامياً, أبرز رموزه المفكر العربي «حسن حنفي», إلى جانب اليسار الشيوعي والاشتراكي, والقومي والديمقراطي, ومن ثم اليسار الجديد الذي انعقد له مؤخراً مؤتمر في صنعاء تحت عنوان «اليسار الجديد والعدالة الاجتماعية». بداية يحسن بنا التوقف عند المعاني والدلالات المحمولة على مفهوم اليسار وتياره الفكري والسياسي والجماهيري, لنقول إن اليسار يعني فيما يعنيه الانحياز لعامة الناس, أو للأغلبية الساحقة من شعوب البشرية و أممها وهي الأغلبية التي كانت, وستبقى, ضحية الاستعلاء الطبقي والاستكبار السياسي والاستغلال الاقتصادي, وتضم فئات تحترف العمل وتمثل قوة الإنتاج المادي من عمال وفلاحين ورعاة وتجار ومهنيين وحرفيين وجند وموظفين وخدم وأجراء وعبيد ونساء وأطفال أحياناً. في المسار التاريخي للبشرية وفي مراحل تطورها من العصر البدائي وحتى العصر الرقمي الراهن, كان اليسار انحيازاً متجدداً للمستضعفين والمسحوقين والمستعبدين والمحرومين, رغم حداثة صياغة المصطلح وتداوله في الفكر السياسي المعاصر, فكل دعوة لتغيير قواعد الظلم السائدة في مجتمع إنساني لصالح قيم المساواة والحق والعدل, مثلت يساراً أو تجسيداً لجوهره الأسمى حسب ظروف الزمن والمكان. في التاريخ المعاصر, قدم اليسار أولوية العدل الاجتماعي على الحرية الإنسانية, منحرفاً إلى استعلاء واستكبار برر بطشه بالحرية, ثم العدالة, بضرورة القضاء على كافة أشكال وصور التمايز الطبقي بين الناس, والقضاء على الاستغلال والحرمان, ممثلاً بالطبقة المستغلة - بكسر الغين - من الرأسماليين والإقطاع, وفي هذا كان وعده الاجتماعي للناس مختصراً بمجتمع المساواة والعدالة أو بجنة الشيوعية, أو بمجتمع الاشتراكية والكرامة والعدالة, ولكنه فشل لأنه في الواقع تحول إلى طغيان ضحاياه الغالبية المسحوقة. في المقابل كانت الرأسمالية تحتكر الحرية لصالح قلة من ملاك الثروة, وخصماً من حقوق الأغلبية العاملة والمنتجة, خصوصاً في بلدان العالم النامي, الذي عاد إلى عهد التمايز الحاد بين قلة مستأثرة, وغالبية مسحوقة ومحرومة, حيث أسقط التحول نحو اقتصاد السوق مكاسب اليسار الوطني في البلدان النامية , ودور الدولة في ضمان الحقوق المعيشية والاقتصادية للمواطنين, وهنا تأسس واقع جديد في تلك البلدان ومنها الأقطار العربية يستدعي اليسار إلى المسرح السياسي – الاجتماعي من جديد من بوابة الحاجة إلى, والمصلحة من, العدالة الاجتماعية . يمثل مؤتمر اليسار الجديد من حيث المبدأ, استجابة إيجابية للواقع الراهن, والنتائج المتراكمة لعملية التحول نحو الديمقراطية واقتصاد السوق, ونأمل أن يكون المؤتمر خطوة أولى في مسار متحرك نحو الوصول إلى مرحلة ثورية يتقدمها اليسار بوعد اجتماعي جديد, خصوصاً بعد الإنجازات الكبيرة التي حققتها وتحققها جماهير الثورة في ما يسمى «الربيع العربي». أعتقد أن الوعد الاجتماعي لليسار الجديد في المرحلة الراهنة محمول على العدالة, ولكن ضمن نسق تتكامل فيه الحرية كحق والعدل كنظام يسع الحرية ويتسع لممارستها بغير بغي أو عدوان, وذلك يعني أن التعددية الحزبية, كآلية لممارسة الحرية السياسية تمتد إلى المجتمع بذات القيمة لتكون التعددية أيضاً آلية لممارسة الحرية الاقتصادية, وبعبارة أخرى فإن النشاط الاقتصادي في نظام سياسي قائم على الحرية والتعددية, هو أيضاً نظام تعددي غير منغلق على أحادية اقتصاد السوق . إن العدالة الاجتماعية تمثل المساواة التامة بين الناس وتشمل الحرية في السياسة والاقتصاد، كما في الثقافة والاجتماع ولذلك تتأسس فلسفة الاقتصاد على التعددية كضامن وحيد للتنافس, والنابذ الأكبر للاحتكار والاستغلال, فحين يكون الاقتصاد متعدداً في القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المشترك والقطاع التعاوني والقطاع الخيري والقطاع الخدمي, فإن حرية الاقتصاد تكون مجسدة في الواقع وقائمة على المساواة في الحق والعدالة في الكسب, والتنافس في السوق. إن التعددية السياسية في ظل أحادية الاقتصاد لا تعني سوى سيطرة قوى هذا الاقتصاد على المجتمع والإنتاج, وعلى الحرية والحقوق, وهنا تبرز مهمة اليسار الجديد في تقديم الوعد الثوري للمجتمع متكاملاً بين الحرية والعدالة, وشاملاً بالتعددية السياسية والاقتصادية . إن هذا الوعد لا تفرضه العدالة الاجتماعية فحسب, بل تحتمه الحالة التاريخية السائدة في الوطن العربي, والتي تستدعي تعددية النشاط الاقتصادي للوفاء بمتطلبات التنمية المستدامة الشاملة وفقاً للحاجة والمصلحة, وأولوياتها حسب إمكانات الواقع ومتاحات القدرة على الاستثمار والإنتاج, وذلك يعني إعادة تأصيل مفهوم الملكية وصياغته بمرجعية الحق الفردي بالتملك, والحق الاجتماعي أيضاً ثم إقامة التوازن بينهما وفق اقتصاد تعددي محكوم بالمساواة والعدل, ومشروط بالصالح العام والتنافسية في السوق. إجمالاً, تتزامن العودة إلى اليسار من جديد في اليمن مع حراك عربي غير مسبوق, وتحرك عالمي جديد ضد الأحادية الاقتصادية المنغلقة على الاستغلال والاحتكار, والمتحركة على إفساد الأرض وتلويث البيئة, واستنزاف المصادر والموارد, وهذه العودة في سياقها التلازمي وطنياً وقومياً وعالمياً, لا تؤكد أصالة اليسار وثبات جوهره العام وإنما تؤكد حتميته التاريخية في نسق الصراع الإنساني بين الاستغلال والعدالة, وبين الإفساد وإعمار الأرض بما يحفظ الحياة ويحقق لها الرفاه والكرامة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك