انشغال الناس بالقيل و القال و كثرة الشكوى و التذمر و تتبع العثرات و البحث وراء الفضائح و الأخبار المثيرة للرأي العام يتحول إلى وباء يصيب العقل بالتصحر و يفرغه من ايجابية البحث عن الحلول إلى سلبية البحث عن المشاكل للإيقاع بالخصم لغرض التشفي لا أكثر. أظنُ و بعضُ الظنِ إثم , أننا نمر هذه الفترة بحملة توعية شاملة و مكثفة غير مسبوقة و لا يشابهها في الأثر إلا ما حدث من توعية عقب الثورة الدستورية عام 48 و الفترة الانتقالية التي تلت إعلان دولة الوحدة اليمنية في بداية التسعينيات مع مراعاة فارق التوقيت الزمني. هذه الحملة التوعوية الواسعة و المكثفة يقوم بها ما يمكن ان نسميهم مجازاً « التنويريون أو المتنورون» بغض النظر عن انتماءاتهم أو دوافعهم أو حتى ما يصدرونه للعامة من أفكار و تحليلات و تنظيرات وآراء مختلفة ومتباينة و متنوعة كل حسب توجه و انتمائه و عدائيته تجاه طرف ما.و لكن حتى يتسنى لهذه الحملة أن تؤتي ثمارها و تصبح أكثر فائدة مما نرجو فلا بد أن يصاحبها تحرك واسع باتجاه إحداث أثر نهضوي واضح على أرض الواقع في شتى المجالات. و لنا أن نتخيل أن هذا التوسع التوعوي عبارة عن توسع رأسي و لابد أن يصاحبه توسع أفقي وبصرف النظر أيضاً عما قد يبدو للوهلة الأولى نوعاً من التضليل حين يتعلق الأمر بالمناكفات السياسية , وما تطرحه أقلام وإعلام الدفع المسبق, فإنه لا يخفى على أي لبيب أنه في المحصلة النهائية ستكون النتائج إيجابية وستؤتي ثمارها في المستقبل , وما هذا التذمر والتبرم و التضجر الواضح في كتابات وأقلام ما يمكن أن نسميهم “النخبة” إلا مخاض سيتولد عنه أجيال تعي بالضبط ما يصح لها وما ينفعها لبناء دولتها على أسس صحيحة وهم مدركون تماما ما لهم من حقوق و ما عليهم من واجبات. وما قصدته بالتوسع الأفقي على أرض الواقع هو البدء في تبني المشاريع الخاصة و محاولة كل صاحب فكرة إبرازها إلى السطح والعمل على إنجاحها , وإقامة شراكات حقيقية لأصحاب المشاريع الانتاجية و الحرفية الصغيرة والاتجاه نحو تشجيع الابتكارات و الاختراعات ودعم مناهج البحث العلمي بأبسط أشكاله والاهتمام بمعاهد التقنية و البرمجيات و اللغات والفنون. ما يعني التوازي في حملة التوعية والتعمير حتى لا يظل الأمر محصوراً في التثقيف النظري والتوسع في المدارك المعرفية فقط فنصحو على أمةٍ تعرف لكنها لم تقم بشيء مما تعرفه « كما حدث في البلدان النامية التي تبنت الفكر الإشتراكي في القرن الماضي كَ مثالٍ للتوضيح لا أكثر » , فبمرور الوقت تتسع الفجوة ما بين إدراك الناس لما يجب أن يكون و بين واقع حالهم الملموس من المعاناة في الحصول على حياة كريمة فيقعون صرعى التخبط بشكل أكبر , والزمن يمر والانتظار أمر. يجب صرف طاقات الشباب فيما يعود على البلد بالنفع وهذا ليس بالأمر الصعب , وتحديد الأهداف في ظل وجود هذه التوعية و في ظل الثورة المعلوماتية العالمية لم يعد بالأمر الصعب وتحقيقها ايضا . المشاريع الصغيرة و الخاصة هي جزء مهم من الحل الأمثل لبداية صحيحة, و أعني بالضبط المشاريع الصغيرة و المبسطة التي لن تكون مكلفة لكنها ستكون مثمرة حين تتوزع و تحتل مساحة واسعة في القرى و المدن, كل حسب قدراته الذاتية و المتاحات الممكنة له مهما ظهر له أنها بسيطة. إن معملاً للحرفيين يضم مجموعة افراد يطورون مهاراتهم و يبدعون في عملهم لصنع شيء ما نافع أفضل من “مقيل” يحتوي العشرات يلوكون حمى السلبيات و يغوصون في تعميق اليأس و الإحباط و فقدان الأمل فطول المدة والفراغ يصرف النشء نحو الأشياء الهدامة للمجتمع و ما أقصده بالهدامة هو تبني الصراعات و الانزواء في عزلة مقيتة أو الانضمام إلى جماعات جهنمية لا تحمل أي مشروع وطني حقيقي. إن مهمة التنويريين من مفكرين و مثقفين واعلاميين وصحفيين ليست في خلق جو مشحون بتبادل التهم ولا خلق بؤر جديدة للتكتلات المتنازعة وإلقاء اللوم على هذا أو ذاك بقدر ما هي في توجيه عجلة القيادة نحو بر الأمان والأخذ بيد العقليات المتحفزة للعطاء في الاتجاه السليم للبدء في البناء. حتى لا نتوه أكثر. نحتاج للضرورة القصوى إلى ثورة مشاريع بعيداً عن إحباطات الساسة , فلنعزلهم في دوائرهم الضيقة و لنجاهرهم بما يمكننا نحن تقديمه حقيقة على أرض الواقع . ثورة المشاريع الصغيرة ستضمن لنا الكثير بعيداعن مخرجات العمل السياسي ولن نقول بمعزل عنها و يجب الا تقف في طريقنا المعوقات و لا أن نترك للجهنميين و الهدامين فرصة الفرح بانتصاراتهم الوهمية المبنية على القتل و التدمير والإخلال بالأمن. هذا لا يعني بالضرورة صرف نظر الجمهور عما يدار خلف الكواليس السياسية و لكن الانشغال بما هو أجدى و أكثر نفعاً بعيدا عن التخبط والصراخ خلف متاريس الانتماء الضيق أي كان نوعه. إن العودة إلى نقطة الصفر في كل مرة أمرٌ مضن للغاية فيجب أن نحفز العقل واليدين في نفس الوقت وأن نوسع مداركنا و طموحاتنا بدلاً من ان نبقى في دائرة محو الأمية. رابط المقال على الفيس بوك