كان اليمين الجمهوري على تواطؤ مع الإماميين. وعقب استحواذه على الحكم بعد 5 نوفمبر قام بإقصاء اليسار الجمهوري الذي كان يتمثل القيم الجمهورية بولاء وطني حقيقي.. ثم سرعان ما تمت المصالحة بين اليمين الجمهوري والإماميين. ولقد كانت المصالحة هي المخرج الذي توافق عليه العكفة ومن يتوقون للإمامة بعد إزاحتهم للقوة الثالثة، فارضين منطقهم على الشعب بشتى أنواع الترهيب والترغيب. في الحقيقة كانا يتربصان ببعضهما في الوقت الذي يتقاسمان فيه المنافع والمصالح والانتشار في جهاز الدولة. على أنهما كانا معاً ووفق تلك التسوية الآثمة أشد مقاومة لروح الجمهورية التي مثلها اليسار وغايتهما معاً العمل على إفراغ الجمهورية من مضامينها تماماً ما جعلهما ينجحان أيضاً في إسقاط آخر بؤر التأثير المصري الجمهوري باغتيال الرئيس الحمدي. وهكذا.. رحم الله شهداء الثورة ومعارك السبعين ومشروع التصحيح. ثم مع صعود نجم ثورة إيران ذهب غلاة المشروع الإمامي ناحيتها لتكون الراعي الرسمي لعملية إحياء مشروع الإمامة الذي ظل يتأجج من تحت الرماد. وبالمقابل تشبثت بقية القوى بالسعودية أكثر وأكثر. كان نظام الحكم الفعلي لليمن الشمالي يتكون من أصحاب المشروع الإمامي الذين يضمرون مشروعهم، فضلاً عن مشائخ القبيلة ورجال الدين الوهابي والعسكر الانتهازيين الذين قفزوا باسم سبتمبر كقوة جديدة للواجهة بعد تصفية العسكر الوطنيين. كان كل هؤلاء ينتهجون أسلوب التحاصص والتقاسم وضرب الجمهورية باسم الجمهورية، وصولاً إلى ضرب مشروع التصحيح بالمحصلة. ولقد تم لهم ذلك كما ينبغي. فيما استمروا يستغفلون هذا الشعب ويوصمون كل من يعارضهم بالمناطقية والطائفية، حتى اشتعلت بينهم حرب المصالح التي لا تنتهي. صحيح أن آمال الشعب ظلت تكابد من أجل حلم الخلاص والتطور ، إلا أن عقليات الحاكمين استمرت مضمحلة بالتخلف ومنغلقة على أنانيتها ومفاسدها فقط. بل لطالما كانت الخيانات هي التجليات الوحيدة لطريقة هذه العصبة في الحكم. والشاهد أن هذا الخلل الخطير على بنية الدولة والمجتمع هو الذي استمر يتطور مستحضراً أسوأ ما في الموروث القديم قبل الثورة في الحكم. وهكذا.. من الصراع المذهبي غير المعلن بين اليمين الجمهوري والإماميين تفاقمت النتيجة إلى صراع المنتصرين مع الحزب الاشتراكي، ومن ثم التنكيل بقيمة الوحدة للأسف. قمة العبث بالطبع أن يكون علي صالح هو عصارة كل تلك الأحداث الجسام التي دمرت نسيج اليمنيين الاجتماعي وفكرة الدولة الضامنة لهم جميعاً بحيث استفرد في النهاية وحول كل شيء لمصلحة زبانيته الأشد قرباً، كما اتضحت طموحاته التوريثية وخططه لضرب بقية القوى ببعضها، مستغلاً خصومات الأطماع وحساسيات المصالح التي نشبت. فحين راهنت القبيلة بمشروعها كان أن راهنت الإمامية بمشروعها بالمقابل.. بينما استمر المشروع الوطني المدني في خبر كان.. وبالضرورة فإن هذا المآل الذي طغى على الجمهورية بشدة وحرفها عن مسارها هو ذاته الذي انعكس على الوحدة كما نعرف ثم على الثورة الشبابية كذلك. ولو تأملنا بهدوء سنجد أن الظاهرة الحوثية وظاهرة الحراك، إضافة إلى وقوف الإخوان ضد صالح مثلاً في السنوات الأخيرة هي الحصيلة الطبيعية لسوء إدارته الكارثية المستحكمة للدولة والمجتمع. إلا أن تحالف الحوثي مع صالح لاحقاً ومن ثم سهولة اختراق كل من الحوثي وصالح والإخوان للحراك بنية استغلاله ومحاولة تمييعه تمثل الخلطة العجيبة التي تكشف بجلاء أن الإصلاح والحوثي في الأصل هما الرديف الديني والدينوي لعقله السياسي الأكثر من سيء: عقل المشاريع الصغيرة والاستفادة من الاستغلال السياسي للدين الذي هو ذاته عقل تصفية الحسابات العميقة بحساسيات بدائية لاوطنية وعقل التهافت على إذكاء الفساد وعلى تنمية تصرفات اللاوعي الطائفي باسم السياسة زوراً. فقط وحده اليسار اليمني كان هو الوحيد الذي لا يتكيف مع كل تلك الصيغ.. فيما كان هو الأكثر ضرراً وتضحية خصوصاً مع كل تأجيج للصراع على حساب المشروع الوطني الذي انحاز له رغم كل ما تعرض له من تنكيلات ممنهجة. ويبقى على اليسار استيعاب دروس التاريخ بكل أبعادها إذا أراد الفاعلية كبديل للانفعالية التي تم حشره فيها منذ أمد. إثر ذلك بإمكاننا القول اليوم: إن الصراع الذي نشب عقب ثورة المواطنة المتساوية والدولة المدنية في 2011 ومايزال مستمراً بصيغه وتمظهراته المختلفة هو نفسه من ناحية جوهرية ومضمونية ذات الصراع الذي اندلع عقب ثورة الجمهورية قبل خمسين عاماً. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك