أعتى لحظات العمر ؛ أن يهجرك رفقاء حياتك في ساعات أفراحك وأتراحك ، لسبب لا يتعدى فكرة الاختلاف المذهبي أو الفقهي .. أبدأ خاطرتي بهذه الجملة التوصيفية لحادث مررت به اليوم .. ذهبت عصر الخميس إلى قاعة زفاف لجارٍ لي لغرض تهنئته ومباركته بهذه الفرحة الحياتية الكبرى ، ومما لاحظته خلال عودتي مروري بأصدقاء له هم في نظره أقرب له من أسرته لكثرة ما يجمعه بهم من لقاءات أخوية وإيمانية في المسجد أو في المقاهي أو على شاطئ البحر.. عرفت في هؤلاء بعض التشدد الفقهي لبعض المسائل البسيطة التي ربما تجاوز الخلافَ فيها أربابُ الفقه وأصوله كالدف والأناشيد المصحوبة بالآلات الموسيقية العازفة وما إلى ذلك .. حينما شاهدتهم على مناضد المقهى يشربون الشاي ويتبادلون الكلمات والابتسامات تساءلت : أفي هذا الظرف يترك هؤلاء ، من يسمونه أخا وصديقا ، مشاركة فرحته ومعاونته في إكرام ضيوفه ، لسبب يتعلق بالأناشيد والدف الذي يرون فيه حرمة يجب هجرها ومجافاة مجالسها ؟؟ وما آلمني هو أن أكثر ضيوف هذا العريس المظلوم هم ممن يعتبرهم المتشددون منحرفين أو مقصرين ومرتكبي المحرمات !! لو حاولنا عمل مقارنة بين احتمالية كسب ذنوب من جراء حضور هكذا مجالس واستماع ما يذاع فيها ، وبين الواجب المنوط بهذا الفرد تجاه أخيه المسلم ، لتحديد الواجب المفروض تأديته وتقديمه، عبر نظرية المنافع والمضار. قد يكون حضور هذا المجلس فيه تبوؤ للذنوب في نظر هؤلاء طبعاً واستجابة دعوة الأخ الواجبة التأدية لكونها من حقوق المسلم الخمس أو الست فهنا قول العلماء بأنه يجوز ارتكاب الضرر الأدنى لاجتناب الضرر الأعلى ، بشكل أوضح يجوز حضور هذه المجالس ، بما فيها من محرمات حسب رأيهم ، من أجل تأدية الواجب الأكبر وهو تلبية دعوة أخيك المسلم وإعانته . وهؤلاء المساكين اهتموا بالواجب الأصغر وأهملوا الواجب الأشد وجوباً..! هنا أستغرب .. أتؤدي بنا حدة أفكارنا ورؤانا واختلافنا حولها إلى تقطيع أوتار الصداقة والأخوة التي يحلو بها لحن حياتنا ؟ للأسف هذا هو الحاصل بيننا نحن المسلمون تشددنا الفكري أوصلنا إلى مرحلة القطيعة والعداء المستديم تجاه بعضنا البعض فما بالك تجاه غيرنا من غير المسلمين؟؟! وهذه المعادلة الشارحة لصعوبة تعايشنا الإيجابي مع الآخرين سواء كانوا من نفس جنسيتنا وديانتنا أو غيرهما معاً . أخبرتني إحدى الأخوات يوماً ؛ بأنها هجرتها زميلاتها في الجامعة لسبب أنها كانت من مؤيدي ثورة 2011م وقد كانت تعتبرهن أقرب صديقات العمر رغم قلتهن كذلك أدى إلى طردها من المدرسة الخاصة التي كانت تدرس فيها للسبب ذاته ! وذلك ما جعلها تتعقد من شيء اسمه صداقة وتفقد أمل التقارب مع الناس جميعهم ظنا منها بتشابههم!! كان المسلمون في صدر الإسلام أكثر تعايشاً مع اليهود والنصارى ، بل كانوا جميعاً يحصلون على ذات المستحقات الغذائية والمالية والأمنية .. جاءت مسيحية إلى عمر بن الخطاب يوما تطلب منه مؤنة ، فأعطاها حاجتها من بيت الغذاء ، ثم سألها بكل لطف : ما الذي يمنعك من الإسلام ؟ فاعتذرت لكبر سنها ، ثم بعد ذلك أصابه الذعر الشديد أن يكون استغل حاجتها في دعوتها للإسلام وأنب نفسه كثيراً !! أين نحن من هذا الفعل الراشدي ؟ إذا كنا ندعي أن حياة المسلمين في ذلك العهد تفتقر إلى معان الحضارة وندعيها في أيامنا فإن هذا هو الكذب بعينه .. الحضارة ليست تشديد العمران وتقدم التكنولوجيا .. الحضارة تعايش ومشاركة وتقبل للفكر والرأي وإن كان مخالفاً . نحن بحاجة ماسة إلى التعايش الفكري النظيف، الخالي من مظاهر التعصب والتبعية العمياء، تعايش يتضمن اختلافا في الرؤى والأطروحات يضمن لنا حياة هادئة هانئة نعيش فيها متحابين ومتعاونين لا يفرقنا رأي ولا يفسد مودتنا خلاف. هذا التعايش هو من سيقودنا إلى أسمى معاني الحضارة الحقة التي سترشدنا إلى باقي مجالاتها الثقافية والعمرانية والتكنولوجية و السياسية ... الخ . [email protected] رابط المقال على الفيس بوك