التفكّك في البنية العربية ما بين سلطة الدولة، والجماهير الشعبية تعبئة خاطئة في سياسة التواصل والتفعيل العملي، أي بمعنى وجود دساتير مثقوبة لا تلبي احتياجات الجمع، والتعدد فتخلق صدامات اللاوعي على مستوى الفرد والمجتمع والدول. كما أن ارتكاز الدعامات الركيكة والمغشوشة بالتأكيد تؤدي إلى انهيار الصرح والبناء. في بادرة من النوادر على المستوى السياسي في الوطن العربي يصدر كتاب للرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي تحت اسم «الكتاب الأسود»، ولا تشابه في المسمى والمحتوى مع كتاب الرئيس العقيد الراحل معمر القذافي «الكتاب الأخضر» الذي جاء في مجمله ممنهجاً كدراسة لوضع اجتماعي، سياسي، اقتصادي.. من وجهة نظر كاتبه، ومن خلال تجاربه في مفاصل الحياة، عكس وضع وصياغة الكتاب «وضع وطن» و «صياغة شعب»، إلا أن «الكتاب الأسود» «كالصندوق الأسود» من وجهة كاتبه، لجزء فاضح سياسياً في بنية البلد «تونس» السياسي. لم يأتِ وقع الصدى للكتاب من كونه جانباً توثيقياً لفضح شخصيات سياسية، وفكرية، و إعلامية.. وإنما الأكثر صدى أن صدوره جاء من قامة سياسية من أعلى قمة هرم في الدولة، ويعد هذا أحد جانبين، إما أن الرئيس المنصف المرزوقي - نظيف السجل التاريخي السياسي، ولديه حب عميق لوطنه وحريص على انتمائه له، إضافة إلى الجرأة في الطرح لكتابه «الكتاب الأسود» بغض النظر عما سيلحق به من تبعات نشره وصدوره ، أو الجانب الآخر أن الرئيس المرزوقي مثله مثل كل السياسيين الذين يبررون عيوبهم وسياستهم ويحصرون فخ السياسة في غيرهم، وهم كذلك لا يصطادون إلا المآزق، ويعدون كل واردة وشاردة في سبيل التصفية لحسابات المرحلة، وإلغاء الآخر وحجره عن حقه. جاءت ردة الفعل كبدء لصدور الكتاب بأنه خرق للعدالة، والمجتمع، والدستور، وأن أمر صدوره لا يعد سوى فتح ملفات لتصفية الحسابات، وجاء رأي آخر بأن الرئيس المنصف المرزوقي ما هو إلا جسر عبور لنشر وصدور الكتاب، وأن أطرافاً أخرى وراء صدوره ونشره. في وطننا العربي لا تُذكر أو تُنشر فضائح السياسيين، وأصحاب المكانة في مؤسسات الدولة إلا حين يغادرون الحياة، أو الساحة السياسية، أو تنتهي أوراقهم التي طالما استخدموها. يعد «الكتاب الأسود» سابقة في الوطن العربي ومدونة لفترة عبث شارك فيها نخبة من السياسيين، والمفكرين، والإعلامين.. لدعم النخبة السياسية والنظام السابق لبن علي والتلاعب بحق الوطن والمواطن، والذين مازالوا في أماكنهم متلبسين بالثورة، تلك النخبة السياسية لم تجد من ينتقد خطها السياسي بقدر ما سمعت كثيراً من التطبيل، والتبجيل، وتكريس لغة القوة والاستخفاف ضد قاعدة عريضة من الشعب، مثل ما يحصل في أي قُطر عربي دون استثناءات. ليس هناك أسوأ من السياسيين المتسلطين إلا من يبررون لأفعالهم، ويكتبون وهم معصوبي الأعين، أو «بحرارة متلصصة» تطغى مصلحتها الدونية الشخصية على المصلحة العليا العامة، ولو كان المفكرون لديهم جرأة الحقيقة في فضح كل السياسات اللا وطنية لامتلأت المكتبات ب «الكتاب الأسود» بنسخ متعددة، ووجوه لا تُحصى. وهل« الكتاب الأسود» للرئيس المرزوقي إنصافاً للحقيقة؟! وإن يكن يُعد صدوره كخطوة جريئة عرّت أشخاصاً لبست مُسوح الوطنية، والفكر، والسياسة، والإعلام من واجهة مختلفة. فعلاً نحن في الزمن الأسود نحتاج إلى «الكتاب الأسود»، وفي غياب المنصفين نحتاج إلى مثل المرزوقي «المنصف».