من دفتر مآسيهن المكبوتة؛ قرّر القلم أن يخصّص لهن ما بين فينةٍ وأخرى مساحة، وأن يتحدّث عن «ثقافةِ المسكوت عنه» فكم من فتاةٍ جلدتها ألسن القبيلة بسياطها اللاذعة إن هي باحت بمكنونِ صدرها واكتفت بالصمت حتى إشعارٍ آخر. هذه ماريا قالت بشجن: كنّا في جبالِ وأوديةِ القرية نمضي معظم وقتنا معاً، ونتعلّل برعي أغنامنا حتى وقت العصر، ونعودُ قُبيل المغرب معاً يداً بيد، وحين نقترب من بيوتنا نتظاهر وكأننا التقينا صدفةً، وذات نهارٍ شردت أغنامنا ونحن نتساقى الشجن وهو يُمسكُ بيدي ويقول: أنتِ لي يا ماريا ولا أرتضي سواكِ من تحتلَ مكانكِ في قلبي، ماريا ثقي بي، فأنتِ كُل حياتي ولا أستطيع العيش دونك. تضيف: كنّا حينها لا نعي الحياة جيداً؛ لكننا ألفنا بعض منذُ سنٍ مبكّرة، وكبر معنا ذلك الطفل الجميل المدعو «الحب»..!!. وشاءت الأقدار أن تنتقل عائلة «بسام» إلى منطقةٍ أخرى ويُكمل دراسته خارج الوطن، تلك أخباره التي كانت تصلني عبر إحدى الجارات المقرّبات، وذات مرة أرسل برسالةٍ من موطن اغترابه، هنا تنهّدت ماريا تنهيدة حرّى وألحقتها بدمعةٍ ساخنة، تقول: ليتني لم أقرأ رسالته؛ فقد قرأتها لي أختي التي تصغرني لأنها التحقت بالمدرسة وأنا لم أواصل دراستي؛ لأن حينها كان يُمنع تعليم البنات بين الذكور، حيثُ كان لدينا في القرية مدرسة واحدة فقط، ومُنعت من أن أتعلّم كمعظمِ بنات القرية؛ فقد كان مضمون تلك الرسالة: عزيزتي ماري.. أنا الآن أدرس الطب، وقريباً سأكون جرّاحاً يُشار إليه بالبنان، وقد تزوجتُ بزميلةِ الدراسة هنا، لأنني فكّرتُ ألف مرة قبل الارتباط بها، إنها مناسبة جداً لمركزي الاجتماعي، فمن غير المعقول أن أرتبط بقروية لا تستطيع أن تقرأ حتى رسالتي، وهذه صورة طفلي البكر مرفقة بالرسالة، سامحيني، لأنني لم أستطع أن أفي لكِ بوعدي، وأتمنّى أن تجدي من يسعدكِ..!!. تضيف: من يومها وأنا منهارة لم أصدّق أن الحب الذي كان بيننا أصبح مجرد ذكرى. كيف تناسى شرود أغنامنا ونحن نرسم مستقبلنا معاً..؟!. لقد كفرتُ بشيء اسمه «الحب» كرهتُ الدنيا؛ لأن حلمي البريء ضاع في لحظةِ غدرٍ ممن لا يستحق. تلك ماريا وقصّتها، صدمتها في الحياة؛ أفقدتها الثقة بكلِ من حولها، فهل يعي من يعبث بالمشاعرِ الإنسانية أن القدرَ له بالمرصاد..؟!.