طرق الباب بشكل أزعج جميع سكان المنزل؛ وإثر ذلك أسرع رب الأسرة بالرد على الطارق القلق، وفور ظهوره عليه فوجئ للحظة ثم انفرجت أساريره وابتسم وكأنه عثر على صيده، فطلب بتهكم واضح الدخول إلى المنزل لتسجيل قراءة العداد الذي يتم شهرياً، وكان يمسك بيده فاتورة حساب استهلاك الشهر المنصرم؛ فرحّب به صاحب المنزل وأذن له بالدخول دون تردُّد؛ فهبّ كالنمر الذي انقضّ على فريسته مسرعاً نحو موقع «العداد» الذي كان من الواضح أنه يعرف مكانه الدائم، فمن المؤكد أنه قد تردّد على المكان عدة مرات في الشهور السابقة عندما كان المنزل مؤجّراً لساكن آخر من ذوي المال و«الدسم». ودون أن يلتفت إلى «العداد» قال للساكن الجديد: لديك مخالفة توجب عليك دفع غرامة كبيرة، ولأنني أراك طيباً عندي لك حل أسلم، فيمكن أن أجنّبك المشكلة والخسارة بعيداً عن الجهة المعنية؛ شرط أن آخذ حقي من المال الحلال مقابل ذلك برضاك، وهذا في نظره قمّة الكرم. يا للجُرأة والبجاحة؛ يطلب ثمن سكوته عن الإبلاغ بالمخالفة إن كانت هناك مخالفة ودون خشية لا من الله ولا من الناس يحلّل ما يتقاضاه من المال المحرم..!!. وأمام هذا الموقف الغريب ذُهل صاحب المنزل مستغرباً ما يحدث، متسائلاً كيف حدث ذلك؛ فلم يمض على إقامته مع أسرته سوى أيام، ولم يستقروا بعد ومازال المنزل يُرمّم..؟!. فأجاب حلال المشكلات واقعاً بلسانه بأنه قد اكتشف هذه المخالفة أثناء وجود المستأجر السابق في الأشهر الماضية، وقد تركه لأنه أفاد بألا دخل له بهذا الأمر وكذا وكذا... محاولاً إقناع صاحب المنزل بصواب ما تم، وبالطبع لم يتركه طوال تلك الفترة دون أن يأخذ حقه من المال الحلال كما يعتقد مقابل تغاضيه حتى تستمر عملية الاستغلال والابتزاز بشكل مُحكم؛ خاصة وقد ظلّ الساكن السابق مقيماً في المنزل لأكثر من عامين، وطوال هذه المدة ربما أبلغه المُعنى بالأمر بوجود المخالفة، وحينها تم حل الموضوع ودياً ثم تناساه المُعنى ذاته وعليه كتّم. وظل الحال كما هو عليه حتى انتقل الساكن المذكور إلى منزل آخر، وحلّ محلّه صاحب المنزل الذي وقع في مصيدة الموظف المحترم؛ ليس ذلك فحسب؛ فلايزال صاحب المنزل يطالب الساكن الشارد بإيجارات شهرين لم يسدّدهما متناسياً الوفاء والالتزام والأخلاق والقيم، إضافة إلى التقاعس عن إصلاح ما أفسده في المنزل أثناء إقامته والمماطلة في تسديد فواتير الهاتف والإنارة والمياه، مع أنه من أسرة ميسورة الحال اللهم لا حسد، فالمولى سبحانه هو العاطي المنعم لكن بعض خلق الله لا يحمدون الله ولا يشكرونه على نعمه التي لا تُحصى ولا تُعد عملاً بقوله جلا وعلا: {لئن شكرتم لأزيدنكم} بل يعبثون بحقوق الآخرين ويتقاعسون عن الوفاء بما عليهم من ديون أو مستحقات، فيصيبهم القوي الجبار أو يصيب أبناءهم بما لا يتوقّعون وما لم يحسبون وقوعه، أما حساب الآخرة فهو الأشد والأشمل والأعم. ويبدو أن الأقدار تجمع بين المفسدين عديمي الضمائر سواء من الميسورين أم من متوسطي الحال الذين لا يفرّقون بين ما أحلّ الله وما حرّم، وهكذا يُمارس الفساد بصور مختلفة على مستوى الموظف البسيط الذي لا شك أن له شركاء يساعدونه على ارتكاب تلك الأخطاء والتجاوزات واستغلال وظائفهم في ابتزاز المواطنين ونهب المال العام دون رادع يوقف هذا العبث المنتظم، فقد نصّب أولئك أنفسهم لحل معضلات المواطنين سواء المخالفين حقاً أم من يوهمونهم بذلك ضماناً للحصول على المال منهم، وأسلوب الإقناع واضح وجلي لجميع الأوساط، فما سيتقاضونه من المال أقل بكثير من الغرامات المالية الباهظة المقرّرة للدولة كما يدّعون، والله أعلم؛ وذلك يمهّد لهم وضع الحلول السريعة مقابل فرض مبالغ محدّدة توزّع عليهم كل حسب دوره «ولا من رأى ولا من علم»..!!. الحقيقة هي أن الأمر يتطلّب سرعة المعالجة من قبل الجهات المعنية بعد تقييم أوضاعها الداخلية ثم تقويمها وهو الأهم، بالإضافة إلى ضرورة تلمُّس الظروف والأحوال المعيشية الصعبة للعديد من الموظفين محدودي الدخل التي ربما تدفع البعض من ضعيفي الإرادة والعقيدة إلى الإقدام على مثل تلك التصرُّفات غير السوية ما قد يسبّب لهم فيما بعد الحسرة والندم، والعمل دون تباطؤ على تحسين أوضاعهم، ولا ألتمس العذر لأحد جرّاء العوز والحاجة، فالحلال بيّن والحرام بيّن، والرشوة والابتزاز ليست لهما مسمّيات أخرى، ولا يمكن تجميلهما بمسمّيات عصرية أرقى وأفخم. ولابد أن الجميع يعلمون أن الفساد والإفساد يستشري كالمرض المعدي إذا لم يتم القضاء على منابعه، ومعالجة دوافعه بحكمة ومثابرة وصبر جم، وكان الله في عون المخلصين البررة ذوي الضمائر الحيّة الذين يحاربون الفساد من أبناء الوطن الغالي الأشم، وتلك هي القضية. [email protected]