«المثقف العضوي» أطروحة فكرية للمفكر غرامشي؛ وتعني المهتم بعقله, و«المثقف العضائي» عبارة نقدية الباحث اليمني عصام القيسي؛ تعني المشغول بفمه, وحالياً ظهر بقوة ما يمكن أن أسميه “المثقف النكائي”. ويندر أن تجد في الوقت الراهن المثقف العضوي؛ الذي يقصد به المثقف الحقيقي المؤمن برسالته التنويرية والذي لا يداهن في حماية استقلاليته المعرفية والمناضل في سبيل تحقيق القيم المدنية ويرفض التنازل عن ذاته – كما يفعل المثقف العضائي – من أجل المال أو المنصب, وعلى مدى التاريخ ظل المثقف الحقيقي هو صمام أمان للمجتمع وحارس أمين لقيمه ومرجع قيمي نزيه لكل الفئات داخله, ولم يكن المجتمع يأبه للمثقف العضائي المشغول بفمه, بل كان يحيطه بعزلة شعورية ممزوجة بالاحتقار. يشكل “المثقف النكائي”- وأقصد به المثقف الذي تحرك مواقفه الأحقاد وليس بالضرورة المال- خطراً ليس فقط على الحالة الثقافية والمعرفية, وإنما أيضاً على التطور المدني الذي اتجهت إليه الشعوب العربية بعد قيام الثورات الأخيرة, هذه الثورات التي أظهرت حقيقة كثير من الأصوات المثقفة التي لا تناضل خارج فمها, وفضحت زيف ادعائها للمدنية وأخواتها, المدنية التي أضحت كلبان يلعك ويرمى عند الحاجة له؛ بغض النظر عن مصدر الحاجة, هل الفم أم الحقد؟. في الساحة اليمنية يتسيّد حالياً, المثقف (العضائي والنكائي), ورغم بعد الاثنين عن قيم المعرفة وشروط الثقافة ومبادئ المدنية, إلا أن النكائي يعتبر الأكثر خطورة على تقدم اليمنيين باتجاه الحكم المدني, باعتبار أن العضائي ديماغوجي تحركه احتياجات فمه الآنية, بينما النكائي شخص مصاب بأمراض نفسية لا علاج لها مثل الحقد, ولا أسوأ من حقد المثقف, حيث يصبح الحقد مصدراً لتقييم الناس, نحن أمام حقد ايدولوجي يصنف الناس معرفياً على أساس صراعات الماضي وليس متطلبات الحاضر, ويحتكر هذا المثقف الحقود, المدنية, ليوزعها على من يريد حسب حالته المزاجية, والأخطر عندما يتسنم مثل هذا المثقف مناصب سياسية وحزبية ومدنية, ويوظفها لصالح “حقده الايدلوجي” ويقبل أو يرفض الأشخاص أو القرارات نكاية ب شخص أو جهة ما, لصالح إرضاء شخص أو جهة ما. ببساطة؛ يمكن أن نجد هذا المثقف, في الحزب؛ حيث يحوله من حالة مدنية راقية, إلى ماراثون للأحقاد والضغائن. وفي الدولة؛ حيث يحوّل مهمتها من احتكار العنف المشروع وحل تنازعات المواطنين باعتبارهم متساوين أمام القانون, إلى ممارسة للعنف الغير مشروع ضد فئة ومع فئة, ووسيط لحل تنازعات الناس. وهذا المثقف الذي يمارس هذه التناقضات بين الفكرة المدنية والسلوك المصادم لها, ستجده يتحدث – بفخر- عن “رمز قبلي” واصفاً إياه بالمدافع عن الجمهورية؛ رغم أن هذا الرمز طوال تاريخه كان منتهكاً لقيم الجمهورية ومغتصباً لأراضيها, أو يدافع - بجرأة - عن “رمز حوثي” باعتباره حامي المدنية, رغم أنه يقود دبابة ويفجر مدرسة ويشرد المواطنين. مثل هذا المثقف لا يصح أن نحتفي به حتى ولو ألف الكتب وتخرج من أرقى الجامعات, لأنك عندما تسبر أغواره, ستجد أن النكاية هي ديدنه والحقد هو دينه, وكيف لمثله أن يساهم في صناعة الوعي المدني, أو ينشر الثقافة الوطنية, في ظل تجنيد البعض منهم نفسه, للدفاع عن العنصرية, والتبشير بالسلالية, والارتهان في خدمة ثلاثية (السيد والشيخ والزعيم)؛ وهي ثلاثية طالما كانت وستظل, معيقة لبناء الدولة الوطنية التي نناضل من أجلها جميعاً. إن مشكلتنا مع مثل هذا المثقف, ليس فقط تخليه عن وظيفته الحقيقية؛ المتمثلة بالنقد العقلاني, للأحداث والحركات السياسية, والجماعات الغير ديمقراطية, ولا أيضاً تنظيراته أو دفاعاته عن جماعات العنف, أو رموز القبلية, أو زعماء الاستبداد, ولكن, تسويق تلك الدفاعات السمجة, على كونها يقين ثقافي, هذا اليقين الذي “يكون في بعض الأحيان أخطر على الحقيقة من الكذب”. [email protected]