لا يبدو أن الموضوع يقف عند مسألة تغيير مسئول بآخر فالأزمة ليست في شخصية المسئول في اليمن، ولكنها تراكمات من صراعات مراحل منذ قبل الوحدة، حتى وصلت الأحوال إلى تصدع كرسي المسئولية الذي لم يعد يتحمل مصاعب البلاد التي وصلت إلى حد التهاوي في أكثر من جانب فالسلطة ليست في التغيير بل في حضور هيبة الدولة في المجتمع وعندما ينتهي هذا الركن الهام من إدارة وقيادة الدولة، تصبح عملية خروج المواطن على القوانين وتحدي المجتمع، التسلط الذي يستعيد الفرد عبره ما عجزت الدولة عن تحقيقه. وما تمر به اليمن في الوقت الراهن من أعمال عنف داخلية واغتيالات وفساد وصعود لصراع المذاهب وأزمات تطحن المواطن، في المقابل قصور الحكومة عن طرح البدائل، يدل على أن كرسي المسئولية هو العاجز عن تحمل مثل هذه المهام، فالمؤسسات بعضها في انهيار كامل ومنها عاجزة عن تقديم خدماتها للناس، وغيرها يقف موقف المتفرج وكأنها خارج مسار الأحداث وتلك هي نكبة اليمن في الحاضر، فليست عملية تغيير الوزير أو المدير هي الحل. فهذا المسئول القادم سوف يجلس على كرسي متصدع، تراكم من الأزمات والصراعات وقضايا ترحل من إدارة إلى إدارة والشارع لم يعد يضع لمثل هذه الإدارات منزلة، وانقسام في نفس الإدارات وتصاعد للمطالبة بحقوق العمال، وعجز في سير تنفيذ الأعمال، والأخطر من كل هذا، اعتماد المواطن على قوة السلاح في حل مشاكله، بل وصلنا إلى مرحلة غياب أجهزة الدولة في عدد من المناطق وحضور للمذهب والمناطقية في تسيير أمورها. وهذا التفكك لا يمكن له ان ينتج أي مشروع سياسي أو اقتصادي سواءً في ظل مركزية الدولة أو نظام الأقاليم، لأن الحضور السياسي للدولة في أي مكان يتمثل في الإدارة، وهي ليست مجرد كراسي متصدعة يجلس عليه مسئول يعاني من هزة تأتي به إلى الإدارة وهزة تذهب به إلى أخرى، وتظل حالة البلاد تترنح تحت هذه الضربات لأن أسس القيادة لم تعد فاعلة، وهذه أحوال أسقطت دولاً ودمرت شعوباً، فالنظام إن غاب حلت محله الفوضى. وفي اليمن اليوم لا تجد وزارة أو مؤسسة إلا وهي تعاني من صراعات وأزمات وكأن الحل سوف يكون بسقوطها النهائي طالما تحولت من مرافق لخدمة الناس، إلى مراكز تصارع وتصفية حسابات جاءت من خارجها لتتحول إلى مراكز قوى، وتلك من عوامل دخول مؤسسات المجتمع في دائرة صراعات كراسي السلطة والتي برهنت التجارب بأنها أضعف من أن تقاوم تصدع وتشققات الأرضية التي تقف عليها، وهذا يعطي لنا قراءة ورؤية، بأن الدولة هي فن إدارة شئون المجتمع، فإن غاب هذا الفعل، عن أية دولة يكون الحديث. فهذا الفراغ الناتج في الراهن هو بفعل عقود من عدم بناء سلطة الدولة، والتي ظلت تدار حسب الأعراف القبلية والمناطقية وشراء الولاءات والمراهنات الحزبية، حتى أصبحت مثل هذه الأوضاع من برنامج العمل السياسي، وقاعدة للوصول إلى الكرسي الذي لم تصنعه الديمقراطية، بل لعبة أوراق الصراعات السلطوية، وهو ما جعل منه في حالة ترنح عبر كل مراحل الحكم الجمهوري في اليمن. أما الحاضر والذي مازال يسحب خلفه إرثاً كبيراً من ذلك الإفراز، يبدو أنه يعاني من نفس التكسرات في دمه، الدولة تبحث لنفسها عن حضور في المجتمع، والمجتمع في عدد من جوانب يطردها مثل الجسم الغريب أو الدخيل عليه، أما المسافة الفاصلة بين الدولة وهذا المجتمع قد عززت تقاطعها قوة السلاح والمشاريع المناطقية، وقتل القيادات الأمنية والعسكرية والتخريب في عدد من المؤسسات الاقتصادية، وكأن الدولة أصبحت في قفص الاتهام عند تلك الفئات لذلك يجب ضربها وضرب مصالحها لأنها أصبحت مثل العاجز الذي يزحف على الأرض وليس له القدرة على السير. والنظر في عمل مؤسسات الدولة يجعل الفرد يطرح أكثر من تساؤل عن أي نهاية سوف تصل إليها اليمن. نحن الآن أمام دولة اتحادية وهناك أقاليم سوف تدخل على العمل السياسي، ودستور يواكب هذا القادم، ولكن هل يتحقق كل هذا في ظل هذه الأزمات والتصدعات التي تضرب كل يوم واقع الناس. نحن لا نريد أن يدخل مشروع الدولة الاتحادية في نفس دوائر العجز التي وقعت فيها تجاربنا السياسية السابقة وإلا سوف تكون نتائج الفدرالية تمزق جغرافي وسياسي من يصنع حدوده السلاح، وهو وضع علينا قراءة حساباته من أكثر من اتجاه، لأن المسألة هنا ليست قرارات بقدر ماهي مواجهة مع تحدي وواقع أوراق اللعبة السياسية فيه يمسك بخيوطها أكثر من طرف، منها ماهو يتحرك تحت الرمال مثل زواحف الظلام، ومنها من يختفي في شقوق الأزمات وحفر التناحرات مثل المواد المتفجرة التي توضع في مثل هذه الحالات حتى يحين وقت تفجيرها فيكون سقوط التراب والأحجار على أجساد الضحايا، والمواطن هو أول من يخسر عندما تنهار بلاده، لأنه ليس من الذين يحملون الجنسية المحلية وأخرى لدولة غربية تباع بالعملة الصعبة، لأن الصعوبة في حياته جعلت منه ذلك المعدم عبر كل المراحل، لذلك لا تخلق مسألة تغيير المسئول حلولاً لوضع تحول من مشكلة إلى أزمة وهو الآن في طريقه إلى كارثة، وربما يصبح المسئول الجديد أزمة جديدة تفجر صراعات لا تقف عند حدود باب غرفة المدير أو الوزير، فهي قابلة للخروج إلى الشارع، وهناك لا يمكن لجم وسائل التخاطب مع ذلك القادم إلى هنا عبر قرار وزاري، لأن الشارع الخارج عن سيطرة الدولة له حساباته الأخرى في التعامل مع الأزمة والانفلات. وربما تصبح حقائق هذا الواقع أصعب من أن تحل بقرار، والذي أصبح هو الآخر عند الناس مثل أخبار التفجيرات وأزمة المحروقات وانقطاع الكهرباء والبحث عن الماء، كل هذا مشاكل من غير حل، وما على المواطن سوى النظر في هذه المصاعب والتي تحولت إلى حالة عامة تمر بها كل يوم. إن المؤسسة الحكومية لا تصبح لها مكانة في المجتمع إلا إذا هي إدارة وتعامل، في هذا تكون وجه الدولة القيادي، وأداتها في تحول المجتمع من حالة الأزمات إلى مراحل الوعي السياسي، فالخدمة التي تقدمها مؤسسة الدولة للمواطن، هي ما يوجد في ذاته الشعور بأن الدولة هي من تصنع المجتمع المتحضر، لأن الأزمات لا ترحل، بل تحل، وفي حل كل أزمة عند المواطن تعزز منزلة الدولة في كيان الأمة، ويصبح انتماء الفرد للوطن بعيداً عن غير هذا من الولاءات الفردية القاتلة والتي لا تمتد أنيابها السامة إلا في حالات التمزق والتشرذم ووضع السلاح أمام العقل ورفع صوت القتل على تخاطب الوعي.. إن الأزمات وعبر تعاقبها، هي من يعزز شقوق التصدع في كيان الأمة، ويغرقها في دوامات من التناحرات وتفرغ حضور الدولة من عمق المجتمع، وكلما مرت الفترات على هذا التهافت تسارعت ساعات الانفجار الأكبر، والأخطر في هذا ترك الأحوال معلقة دون إدراك لمعنى هذا الإهمال الذي في تسارعه يسحب معه في غفلة منا أمان المواطن واستقرار الوطن. وفقدان هذه الثنائية هي انتحار الأوطان، فغياب أمن المواطن يعني لا عقاب للجريمة ولا قانون يحمي الحقوق، وضياع استقرار المواطن هو التدمير، وكل هذا لا يحدث سوى في بلاد أصبح فيها كرسي المسئولية متصدعاً، ولعل أخطر تساؤل تطرحه علينا حالة هذا الكرسي هو، هل هذا الكرسي هو حالة حتمية لدولة تسعى لتدمير نفسها من الداخل. ذلك هو أخطر الأمراض السياسية التي ربما عجزت نظريات العلوم السياسية عن طرح إجابة عليه. ومجتمعات مثل مجتمعنا لا تخرج عن حالة مرضية مثل هذه، فهي تعيد إفراز نفس جرثومة أزماتها عبر تعاقب صراعاتها، مما يعيد إنتاج نفس صورة الكرسي المتصدع والمسئول الغياب عن الحضور. وإن ظلت حالات مثل هذه تتكرر عبر حقب التغيير السياسي والتي كثيراً ما تكون عبر قذيفة ورصاص تصفية الحسابات من الخلف، تظل قضية حضور الدولة المدنية في المجتمع من شعارات المتاجرة في لعبة خلط دم المواطن الضحية مع تراب الوطن المحروق بنار حروب الغنيمة والمصالح، ومع تصاعد المتاجرة في مثل هذا الحال تصبح عملية خلق هيبة الفردية هي الحق المفروض في ساحة المواجهات، وهذه الوضعية ليست لها كرسي في وزارة بل بندقية وقنبلة في الميدان، وكسر العظم هو الرد على كل من يسعى لتحوير أهداف لعبة المصالح. هناك من لا يدرك، أن لعبة صراع مراكز القوى في السياسة لا تحتفظ دائماً بنفس الكراسي لأن التبدل من صفحات اللعبة، وحتى أوراقها تصبح بعد وقت محروقة وغير قابلة للمراهنة عليها، لذلك نجد الورقة الذاهبة للسقوط كرسيها لم تعد له قوائم مهما تمسك به صاحبه، فالسقوط قادم وتلك هي حتمية التاريخ، فالأبدية في السياسة ليست لها وجود إلا في عقول زين لها الوهم، إن البقاء للأقوى، وفي السياسة لا توجد القوة المطلقة، لذلك كان سقوط القادة والنظم التي اعتقدت أنها الزمن المستمر في الحياة غير أنها لم تدرك بأنها كانت تجلس على كرسي متصدع يقودها إلى التهاوي أكثر مما يحافظ على قبضة سلطتها على الحكم. ان عجز الوضع عن طرح الحل ليس هو المشكلة، بل في الدوران حول نفس الحلقة، والتعامل مع الخلل من منطلق العادة، والنظر إلى العجز من زاوية أتركه حتى يتحول إلى شيء خارج الاهتمام، وهكذا حتى وصلت الأمور إلى درجة الصفر من تجمد الشعور بالمسئولية تجاه ما قد يعصف بالوطن، لذلك تكون حقن التخدير الحل الأسرع، غير هذا المسئول أو ذاك المدير، وفي هذا عملية مط للوجع الكامن في جسد الدولة، هي عملية توسيع لهذا الجرح دون علاج. من ينظر لحال اليمن في الوقت الراهن يدرك ان الأزمة ليست في شخص المسئول، بل في دوائر حكومية فارغة من حضورها الفاعل في الحياة والناس، لأن المسئول لا يقدر على تحويل القرار إلى واقع عملي وهو يدرك أن مقدرته حاضرة فقط في الجلوس على كرسي السلطة، وهناك فرق بين المسئولية والسلطة، في الأولى بناء كيان أمة وقيادة وعي، وفي الثانية إما القمع وأما الإهمال، وعندما تصبح الثانية هي المخرج فلا دولة تقام ولا إدارة تؤسس ولا مجتمع مدني يوجد في عقل الفرد. ربما التصدع لا يصيب وضع الكراسي، بل يضرب ما بقى من شكل الدولة ويذهب بها إلى الانهيار الكامل، وهناك من يدرك بحتمية هذه النهاية، لكنه يدرك في نفس الوقت بأن زمن الإنقاذ قد مضى حتى وأن كان يجلس على كرسي المسئولية، فالتصدع يتسرب إليه دون أن يشعر، لأن إغراء السلطة ينسج له صورة خادعة من قوة الدولة، بينما الحقيقة لا يدركها إلا من نظر من مسافة فاصلة بين الكرسي المتصدع وزمن السقوط.