أكثر الأخلاق الغائبة عند العرب هي «الإنصاف» وهو خُلق إنساني جامع للأخلاق، ومن شأنه أن يؤسّس لحياة اجتماعية عادلة تشجّع الإبداع وتعطي كل ذي حق حقّه ولا تغمط الناس حقهم حتى لو كانوا خصوماً ولا نحبّهم. الإنصاف خُلق متين يعكس صلابة وطُهر صاحب الخُلق، ويظهر أكثر عند من نكرههم ونخالفهم وليس من نحبّهم؛ لأن إنصاف من تحبّه هو موافق للهوى ولا يعد أمراً بطولياً، ولهذا قال الله تعالى: «ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى». يحقّق الإنصاف الأمان ويعطينا عدلاً لا نخاف عليه من الضياع. عندما يغيب الإنصاف؛ يغيب معه الصدق والعدل، ويتعطّل الإبداع وتُكبت المواهب ويسود الخسران ويحضر الكذب والظلم, ويكفي أن ترى مجتمعاً يتفشّى فيه الكذب والظلم لتعرف كم هو مهين ومتخلّف.عندما تسقط الأخلاق؛ تسقط الأمم، قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا هناك صور من التعاون على الظلم والكذب بصورة علنية، وأحياناً على المستويات الرسمية والشعبية, لم تعد هناك قواعد للخلاف والخصومة هذه الأيام، وأصبح الفجور هو المسيطر على حركة الأفراد والجماعات؛ وهو أمر يجب أن نتنبّه له ونتابع أولادنا حتى لا يستمر السقوط المجتمعي إلى الحضيض. لقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلّم أهمية الأخلاق وقال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وهو هنا يعترف بمكارم الأخلاق التي كانت موجودة عند العرب المشركين، وهذا إنصاف تحقّقه الرسالة المحمدية حتى للمشركين الذين لم يصلوا إلى هذه الدرجة الحاضرة من الفجور والكذب وغياب الإنصاف. وقد ورد أن هرقل أمر رجاله بإحضار رجل من قوم الرسول، وكان بعض التجار من قريش يقومون برحلة تجارية في بلاد الشام، فجيء بهم إلى ديوان القيصر، وسألهم هرقل عمّن كان أقربهم نسباً بالرسول، فأجاب أبوسفيان: «أنا أقربهم نسباً». هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال..؟!. أبوسفيان: لا. هرقل: هل يغدر..؟!. أبوسفيان: لا. فقال هرقل: قد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وقد كان هنا أبوسفيان مشركاً وفي قمة الخصومة، والحرب مع الرسول؛ لكن أخلاقه منعته من عدم إنصاف خصمه أو الكذب والتجنّي عليه، وقد قال موضحاً وهو يروي هذه الحادثة: «والله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه». إنهم يفزعون من الكذب ومن ثم تجبرهم أخلاقهم على استمرار حد من الانصاف؛ هؤلاء وهم مشركون وقادة لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا هي الأخلاق تدعم بعضها بعضاً، فالصادق ما كان له أن يبتعد عن الإنصاف, والكاذب لا يمكن له إلا الفجور والظلم وفعل كل الشرور. اليوم ما أبعد العرب والمسلمين عن الإنصاف والصدق، وأقربهم إلى الفجور والكذب؛ وهو ما يفسّر هذا الحال الأسود والمتخلّف به يفجرون ويكذبون على بعضهم ويتفاخرون بالكذب والظلم والفجور كبطولة؛ ربما تكون هذه الأخلاق الهابطة بحاجة إلى إصلاح جذري باعتبارها وباء فتاكاً للدين والدنيا وشرطاً لصلاح أحوالنا الهابطة والبائسة «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» وجمعتكم مباركة. [email protected]