السلطة والثروة ثابتتان ولكنهما تتنقلان بين الناس وبهما يمارس الإنسان الأنشطة الفكرية والمادية مشكلاً حضارة آنية أو دائمة المعاصرة تلبي حاجة كل عصر، ولكي تنمو وتنضج فلابد لها أن تُمر بأطوار وأنماط متعددة، تمثل عصارة الجهد والتجارب الإنسانية وهنا ننقاد إلى التساؤل: ما هي خصائص الحضارة الدائمة المعاصرة؟؟ بدون شروط استفادت كل حضارة من سابقاتها فأضافت معلوماً كان في الأمس مجهولاً!! وتفردت الحضارة العربية الإسلامية بخاصية الأخذ من غيرها بضوابط الدين كونها حضارة خرجت من قلبه واتسمت بالشمول والتنوع وتعكس رؤية الإسلام الشاملة للكون والحياة والإنسان فهي تنضح بالأخلاق والفكر وتسترشد بالعلم والمعرفة وتضع كل ذلك في قالب واحد. في القارة العجوز حدث تقدم علمي بالتدرج من القرن 13م وحتى القرن 16م عرف بعصر النهضة، استوعب فيه رجالات أوروبا العلوم والمعارف الإسلامية المتعددة الروافد وأضافوا إليها فانتقل زمام قيادة العالم من الشرق الإسلامي المتكئ على حضارة “ربانية” إلى العرب المسيحي المتحضر بالمادة أولاً وما سواها يأتي تالياً وولج الشرق والغرب التاريخ المعاصر. إن تطور صناعة السفن وفنون الملاحة وتقدم المعارف الجغرافية والفلكية سهلت لأوروبا ارتياد المحيطات والبحار الواسعة مما أمكنها معرفة طرق ومناطق وقارات جديدة بمسمى«الكشوف الجغرافية» التي حملت في طياتها أول بذور الاستعمار الحديث عبر إسبانيا والبرتغال «الأندلس سابقاً» مع قرب ولادة القرن السادس عشر؟! بالقوة العسكرية المتنامية والمتفوقة على ما سواها، استدعت أوروبا تراثها الاستعماري الممتد من غزوات الإسكندر المقدوني لتوسع إمبراطورية روما، للحملات الصليبية لحل أزماتها السكانية والاقتصادية والسياسية والدينية. كانت كل الأرض العربية بما تمتلكه من تراث ديني ومواقع استراتيجية وخيرات وافرة وما تعيشه من ضعف وانقسام وما تشهده من تأخر علمي وجمود فكري في ظل الخلافة “ التركية” الهدف الأنسب والخيار الأفضل لحل أزماتها أو نقلها على أقل تقدير إذن لا ثالت لأمرين أمام أوروبا إما أن تكون قاتلة أو مقتولة!! هكذا تبدى الأمر لها. أشعلت حملة نابليون الفرنسية لمصر عام 1798م فتيل التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية ودخلت البلاد العربية طور الاستعمار بأنواعه كالعسكري والتذويبي وأشكاله كالانتداب والوصاية. منذ ذلك الحين كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش أنفاسها الأخيرة في ولاياتها العربية التي تنازلت عنها واحدة تلو الأخرى، ودفعت ثمن سياساتها الخاطئة بتحولها إلى أداة أوروبية لتحميل الاستعمار أو إضفاء شرعية أو تبرير تواجده. اصطحبت القوى الأوروبية إلى جانب قوتها العسكرية الدهاء السياسي وفي جعبتها المكر الدبلوماسي وخلقت روح العداء بين العرب والأتراك رغم الصفة الدينية المشتركة بإحياء النزعات القومية تارة والمذهبية تارة أخرى، تكللت مساعيها في التهام الطرفين مع نهاية عشرينيات القرن العشرين إثر انهزام تركيا ودول المحور في الحرب الكونية الأولى أمام دول الحلفاء وفي طليعتها فرنسا وإنجلترا. بادرت الشعوب العربية في التعبير عن حقها في الحياة بمعزل عن القومية التركية والحضارة الغربية” الآنية” مستنيرة بتراثها الحضاري الديني والقومي فقامت الثورات الشعبية في كل قطر عربي تعبيراً منها أن العنف يولد العنف ومن يدافع عن حقه في الأرض والحياة ليس إرهابياً والحرية تأخذ ولا تعطى. لم يفهم «المحتل» هذه المعاني السامية كونه امتداداً لحضارة أرضية لا تعرف بلغة السماء وإنما بأصوات البنادق ودوي المدافع تجذر الاستعمار بإطلالة القرن العشرين ورحل قبل غروب شمسه رحل بالعنصر البشري والدبابة والطائرة والمدفع، وترك أدوات محلية الصنع تعمل وفقاً لأجندته بوعي منها أو بدونه لتأمين حاضره ومستقبله البعيد والأبعد، هذا واقعنا وهذه مأساتنا؟! حضارتنا نورانية وتنويرية قد يخفت نورها لكنه لا يحتجب فمثلاُ: الأندلس ظلت عربية إسلامية قرابة ثمانية قرون تتقد بالعلم وتنير بالمعرفة في حين أقصى مدة زمنية استعمارية كانت 132 عاماً عاشت فيها الجزائر تحت نيران الفرنسيين. لقدر ترك المسلمون في المناطق التي فتحوها المآثر العظيمة والمعالم الخالدة وما قصر الحمراء البديع في قرطبة إلا أنموذج “حي” على ما أعنيه ثم ألم تدخل كتب الفيلسوف “ابن رشد” إلى أوروبا محمولة على الأكتاف ألم تكن مدن أوروبا تعيش في ظلام دامس في وقت كانت مدينة قرطبة تضيء بالقناديل!!فماذا ترك “قداس الأحد” لأصحاب الجمع والجماعات؟! أليس الدمار والدماء والأفكار “الملوثة” وأنظمة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب فأي الحاضرتين تستحق القداسة والأحياء والديمومة حضارة الشرق أم الغرب؟