كلما حاولت إقناع نفسي أن اليمنيين سيتخطّون وضعهم المعقّد والصعب جداً الذي يعيشونه اليوم ويعانون تداعياته؛ يزداد عندي الشك في قدرة اليمنيين على تخطّي هذا الوضع في وقت قريب لاسيما وأنا أتابع الخطاب الإعلامي للأحزاب والمانشتات المثيرة التي تتحفنا بها صحفهم هذه الأيام، فتمنيت كغيري من المواطنين اليمنيين أن تتفرّغ الأحزاب سواء كانت في السلطة أم المعارضة لإصلاح نفسها من الداخل ولو لمدة سنة واحدة على الأقل؛ خاصة تلك التي تدّعي أنها تشكّل معارضة للحكم لتبقى قدوة للمواطن وفي نفس الوقت تكون مؤهلة لأن تمثّل الوجه الآخر للسلطة وتكسب مصداقية أكبر فيما تطرحه من خلال خطابها الإعلامي وتناولها للقضايا بعيداً عن المزايدات وأسلوب الإثارة الذي لا يجدي نفعاً ولا يخدم هدفاً وتتجنّب المبالغة في التناول؛ لأن ذلك يزيد المفسدين فساداً، ويزيد المعارضة ابتعاداً عن الشعب ويفقدها المصداقية تماماً. فهل تغيّر الأحزاب من أسلوب تعاملها مع قضايا الوطن وتبتعد قليلاً عن الانفعال واستغلال أجواء الحرية التي تنعم بها بلادنا فيما لا يخدم مصلحة الوطن العليا ولا يخدم في نفس الوقت أحزاب المعارضة نفسها؛ مع أنها قادرة لو صدقت مع نفسها أولاً أن تفيد وتستفيد وتجعل الفاسدين والمفسدين يحسبون لها ألف حساب؛ لكن بأسلوب خطابها الإعلامي الحالي - الذي سبق أن أشرنا إليه في مقال سابق - المتشنج الذي ينظر إلى كل شيء بنظّارة سوداء ولا يعترف بأية إيجابية أو منجز تحقّق؛ فإنها بذلك تساعد على استشراء الفساد وتقضي على مستقبلها كمعارضة مؤثّرة تعمل على منافسة السلطة وإجبارها على تصحيح وإصلاح الأوضاع الخاطئة، ومع الأسف الشديد فبدل ما تقدّم المعارضة في بلادنا الحلول والمعالجات لكل الاختلالات وتبصير الحكومة بأخطائها؛ تقوم بتشويه سمعة الوطن من خلال تناولها مختلف القضايا بلغة لا تتفق مع المنطق على الإطلاق تصل أحياناً إلى حد الإسفاف؛ بينما في الدول الأخرى تقوم الحكومات بمراقبة خطاب المعارضة الإعلامي الذي يتناول القضايا بلغة وأسلوب راقيين ويقدّم الحلول والمقترحات لمعالجة الاختلالات فتستفيد الحكومات مما تطرحه المعارضة، ولم تكتف الحكومات بالاستفادة وحسب وإنما تقوم بسرقة أفكار المعارضة وتضمينها برامجها الإصلاحية؛ ولذلك فإن أي تقرير صحفي ينشر في صحيفة معارضة يشير إلى مكامن الفساد أو يتضمن مخالفات من قبل جهات رسمية في الدولة؛ فإن الجهات المسؤولة تقوم بإحالة هذا التقرير فوراً إلى النيابة للتحقيق فيما ورد فيه ومعاقبة المتورطين بارتكاب المخالفات حتى لو كان رئيس الوزراء نفسه؛ لأن الحكومة تثق تماماً بمصداقية المعارضة وتعتبرها حكومة الظل، والأمثلة عديدة على إسقاط الحكومات في كثير من الدول المتقدّمة لمجرد أن صحيفة حزب معارض قد نشرت تقريراً تضمّن ممارسات خاطئة، وهو الأمر الذي يجعل الحكومة والمعارضة تتسابقان على خدمة قضايا الشعب والوطن ومحاولة كسب ثقته كون كلمته في النهاية هي الفيصل في إبقاء الحكومة أو إسقاطها؛ وذلك بعكس ما يحدث في بلادنا تماماً، حيث الحكومة لا تستفيد مما تقدّمه المعارضة من أفكار؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا يجعلها تتربّع على عرشها أطول فترة ممكنة تمارس خلالها كل أنواع الفساد، فالمعارضة التي لا تخدم نفسها أولاً ولا تكسب ثقة الجماهير ثانياً؛ فأي شيء ستقدّمه إلى الحكومة سوى الصراخ والعويل الذي لا يجدي نفعاً ولا يقدّم نصيحة، ولذلك نجد أن ما تنشره المعارضة في صحفها وكذلك الصحف الأهلية من خلال تناولها لكثير من القضايا بعيداً عن الموضوعية لا يُلتفت إليه؛ لا من قبل الحكومة ولا من قبل الجهات القضائية التي يفترض كما هو معمول به في مختلف بلاد العالم أن تحيل ما يُنشر من اتهامات موجّهة إلى هذه الجهة أو تلك لأجهزة الرقابة والمحاسبة للتأكد من صحتها، وحتى المواطن لم يعد يكترث بما ينشر لأنه أصبح مقتنعاً أن ذلك لا يحمل في طياته المصداقية الكافية التي تستثير اهتمامه، وهذا يذكّرنا بما قاله الدكتور عبدالعزيز السقاف رحمه الله في مقابلة كنت قد أجريتها معه قبل وفاته بعدة أشهر ونشرت في صحيفة “26 سبتمبر” ردّاً على سؤال حول موقف المعارضة من قضايا الوطن ومراقبة الحكومة، حيث قال ضاحكاً: “إن هؤلاء الذين يشتمون الحكومة في صحفهم ويتطاولون حتى على رئيس الجمهورية هم أول من يتزاحمون للجلوس بجانب الرئيس أثناء المقيل أو أثناء اجتماع الرئيس بهم، مضيفاً أن كل ما يتناولونه في صحفهم لا يعدو كونه مزايدة ولا يخدم قضايا الوطن بأي حال ولا يخدم حتى المعارضة نفسها». ونحن بدورنا نتساءل: أية معارضة هذه التي لا تستطيع أن تحدث تأثيراً يذكر بين صفوفها؛ بل لا تستطيع أن تصلح نفسها؛ فكيف تريد من الجماهير أن تثق فيها وهي بهذا الشكل الهزيل..؟!. إننا بحاجة إلى معارضة قوية قادرة على أن تقدّم شيئاً للشعب والوطن يثق فيها الجميع بعيداً عن تسخير نفسها ووسائل إعلامها لتصفية الحسابات مع هذه الجهة أو تلك من خلال خطاب إعلامي يسيء إلى سمعة الوطن بالدرجة الأولى ولا يحرك شعرة واحدة في رؤوس الفاسدين والمفسدين..؟!! كما نريد من المواطن اليمني نفسه أن يتعصّب لوطنه ولحقوقه المشروعة كما يتعصّب للمذهبية والحزبية والمناطقية التي تجعله يقاتل ويقتل من أجلها وهو لا يعرف على ماذا يدفع حياته ثمناً لتعصبه دون وعي؛ وإن كان هذا يدلُّ على أنه تم تجهيل الشعب اليمني علمياً ووطنياً وتاريخياً، فلا بقي أمياً ليتعامل مع ما يجري من أحداث مأساوية بالفطرة التي خلقه الله عليها؛ ولا صار متعلماً لينظر نظرة واعية تجنبه الوقوع في المصائب والكوارث. وقد وجدت الأحزاب والجماعات والتنظيمات السياسية في المواطن اليمني بهذه العقلية غير الناضجة لقمة سائغة يسهل ابتلاعها وعجينة رخوة تشكّلها في أيديها كيفما تشاء؛ وبذلك ساءت الأمور ولم نتقدّم إلى الأمام خطوة واحدة بقدر ما نتراجع إلى الخلف، وهذا شيء مؤسف ومحزن جداً، وبسببه سنظل في المؤخرة بل دخلنا في دوامة ليس لها نهاية، فصار الوضع الذي نعيشه اليوم يشفق علينا منه العدو قبل الصديق، ولا يعلم إلا الله كيف ستكون الخاتمة للشعب اليمني الذي أصبح مسيّراً وليس مخيّراً من الداخل والخارج فيما يريده لنفسه. [email protected]