في إحدى ليالي رمضان وبينما كنت أقرأ القرآن استوقفتني آية في كتاب الله أو بالأصح جزء من آية، لطالما قرأتها ومررت عليها دون التوقف عندها, إنها قوله تعالى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فتساءلت حينها.. هل كان الرجال يعتكفون مع نسائهم في المسجد حتى تنهاهم الآية عن المباشرة حال الاعتكاف؟ وحتى لو قيل أنهم كانوا يعتكفون معهن فهل يمكن أن تحدث مباشرة في المسجد حتى تنهى الآية عنها؟ وهل كان المسجد في عهد النبي صالحاً للنوم فيه؟ فكيف نفهم الآية إذن؟ كانت الآية السابقة بمثابة مفتاح يفتح باباً ننظر من خلاله كيفية اعتكاف النبي عليه السلام بعد أن تراكم الغبار على ذلك الباب فسد علينا النظر السليم. إن الآية تخاطب المؤمنين الذين يعتكفون، أي يحتبسون في المسجد بعدم مباشرة نسائهم أثناء الاعتكاف, ولا أستطيع فهم هذه الآية إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كان يعتكفون في المسجد طوال اليوم, ثم يذهبون للمنام في بيوتهم وعند نسائهم, ولذا نزلت الآية لتبين لهم أنهم في حال اعتكاف ولا يحق لهم مباشرة نسائهم. غير هذا الفهم لا أظنه يستقيم مع الآية, فإن قلنا إن هناك نسوة اعتكفن معهم في المسجد فلا أظن أحدهم همّ أو قام بالمباشرة في المسجد حتى تنهاه الآية عن المباشرة, وإن قلنا أن نساءهم كن في البيت ولم يكن معهن في المسجد فما الداعي لأن ينهاهم عن مباشرتهن ولا يجمعهم مع أزواجهن مكان واحد، إذن فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يخرج لينام في بيته, وهو لا زال في حكم المعتكف, فيخرج للنوم كما يخرج للحاجات الأخرى, وما دام في حكم المعتكف فإن الآية تنهاه عن مباشرة أزواجه اللاتي ينام معهن، ثم إن مسجد النبي وقتها لم يكن معداً للنوم فيه بسبب فراغات سقفه وجوانبه، وهذا ما جعل أهل الصفة يبنون في مؤخرته مكاناً مغلقاً صالحاً للنوم وبعيداً عن هوام الليل, فأهل الصفة كما نعرف كانوا يسكنون في آخر المسجد في مكان معد ومبني لذلك, والصفة هي الظلة كما قال القاضي عياض, وهذا يعني أن بقية المسجد لم يكن مظللاً تماماً, وهذا أيضاً ما كان يجعل الصحابة يصلون في رحالهم أثناء المطر، فكيف يقال بأن المعتكف ينام في المسجد!!؟ ثم بعد أن اتضح أن النبي وصحابته كانوا ينامون في بيوتهم أثناء اعتكافهم بدت أسئلة أخرى.. هل كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يأكل أثناء اعتكافه في المسجد؟ وهل كانت نساؤه تعطينه الطعام إلى المسجد؟ وإذا كان يأكل في المسجد فهل كان يأكل منفرداً أم مجموعاً مع صحابته الذين اعتكفوا معه؟ بحثت عن أثر صحيح أو ضعيف يقول بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يتسحر ويفطر في المسجد فلم أجد. ولو كان يعمل ذلك الفعل لورد إلينا نقله, لأنه سيكون فعلاً جديداً, وخاصة إذا كان ذلك الإفطار والسحور جماعياً مع الصحابة, ولما لم أجد أثراً واحداً عدت إلى الأصل والأمر الطبيعي وهو أن النبي كان يفطر ويتسحر في بيته وكذلك أصحابه, فخروجه لبيته لأجل الفطور والسحور إحدى الحاجات الطبيعية ومثلها الاغتسال والخروج لقضاء الحاجة, وتغيير الملابس, وقد تعجبت من كتب الفقه بمختلف مذاهبها كيف أنها ذكرت حاجات كثيرة رخصت للخروج فيها ثم لم تذكر الخروج لأجل الطعام رغم أنها رخصت فيما هو دونه, ومن ضمن ما أجازوه خروجه لأجل جلب طعامه وشرابه, فإذا كانوا قد رخصوا له في ذلك فما الداعي لأن يذهب بالطعام إلى المسجد, يستطيع أن يتناول طعامه في بيته ثم يعود. ومن تأمل في مقصد الاعتكاف عرف أن ما ذكرته يحقق ذلك المقصد من الانحباس للتأمل والتفكر وإعادة محاسبة النفس وغيرها. سأنقل هنا ما قالته كتب الفقه من أعذار مبيحة للخروج من الاعتكاف لتقارنوها مع حاجتهم للنوم والأكل لتنظروا كيف تم التشدد هنا والتسامح هناك, برغم أن أي حاجة يحتاج إليها المعتكف برأيي فإنه يخرج ولا مشكلة في ذلك. قسمت كتب الفقه الأعذار المبيحة للخروج من المعتكف إلى ثلاثة أنواع: أعذار شرعية: أن يخرج خروجاًس لصلاة الجمعة إذا كان المسجد المعتكف فيه لا تقام فيه الجمعة, وأن يشهد الجنائز, وأن يعود المرضى, و أن يدرس العلم. أعذار ضرورية: أن يخاف على نفسه أو متاعه إذا استمر في هذا المسجد, وإذا انهدم المسجد. أعذار طبيعية: أن يخرج للبول، أو الغائط, وأن يخرج للاغتسال من الجنابة بالاحتلام, ولتطهير البدن والثوب من النجاسة, وللوضوء إن لم يكن الماء في المسجد, وإن بغته القيء فله أن يخرج ليقيء خارج المسجد, وأن يخرج إلى أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم, وأن يخرج إلى السوق لشراء حاجته إن لم يجد من يأتيه بها, وأن يخرج لتوديع أهله, وأن يخرج إلى بيته ليأتي بطعامه وشرابه إذا لم يكن له من يأتيه به, وكل ما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد فله خروجه إليه، آثار النوم والأكل في المساجد كما نلاحظه في أيامنا: لازلت أتذكر حال تلك المساجد التي امتلأت بشباب معتكفين ينامون ويأكلون في المسجد, فرائحة النوم والأكل التي تملأ الناس وتزعج المصلين لا أظنها من الفضائل, بل هي من المكروهات, خاصة وأننا نلاحظ أن عدد المعتكفين في المساجد صار كبيراً جداً, وصار بأنشطته تلك أقرب للمخيمات الصيفية منه للاعتكاف، بدأ البعض في إدراك هذا المشكلة من روائح النوم والأكل ومنظر البطانيات والفرش المتناثرة في زوايا المسجد, فقاموا بالخروج من المسجد إلى مرافقه، وليت شعري لماذا رخصوا في الخروج إلى المرافق تلك ولم يرخصوا في الخروج إلى البيت, وليت شعري كيف تعمل تلك المساجد التي بلا مرافق كمدارس تحفيظ القرآن وغيرها.