كلّنا راقب وبدقة قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية في اليمن، وقد توجّس السواد الأعظم خيفة من عواقب هذا القرار، منتظراً رد فعل الشارع والذي أتى متفهماً - إلى درجة كبيرة - لوضع الدولة بشكل عام ومأزق الحكومة بشكل خاص، نتيجة ربما لقراءة صحيحة لما تعانيه اليمن كدولة تقع في قعر مستنقع الفساد والفقر والجهل. إن الدور الذي لعبه الرئيس هادي ساهم بشكل كبير في استتباب الهدوء والاستقرار بعد إعلان “الاصلاحات السعرية” ، حيث قام بأدور متناهية الأهمية تمثّلت بالدعوة إلى مصالحة وطنية كجانب سياسي، وانتزاع ضمانات كبيرة من أرباب القطاع الخاص المُصنِّع والمستورٍد للسلع والمواد الغذائية الأساسية بعدم رفع أسعار منتجاتهم. (كارثة اقتصادية كبيرة كانت ستحل باليمن وكانت نذرها تلوح في الأفق)، هذا ما قاله ويقوله الاقتصاديون في اليمن، ولابد من إجراء التدابير واتخاذ القرارات الناجعة لتفادي تلك الكارثة ومنها قرار تحرير سعر النفط, حيث كان حجم الاحتياطي النقدي المتبقي لا يكفي لشراء احتياجات البلد من الغذاء ل3 أشهر، وارتفع حجم الدين العام “الداخلي” بشكل مخيف.. هذه حقائق ومؤشرات تناقلتها كافة وسائل الإعلام عن اقتصاديون تؤكد إن الكارثة كانت ستقع, وبحسب خبراء اقتصاديين يعد هذا القرار أكبر إنجاز اقتصادي لليمن. يبقى مثل هذا الطرح نوعاً من الإنشاء.. كنا نسمعه من المسئولين في البلد، مردّدين - وهم لا يشعرون - أن هناك نمواً اقتصادياً أكبر بكثير مما كان متوقعاً ومما كان مخططاً له، وإن الدولة شنّت حرباً شعواء على الفقر والمرض، تكلّلت بانتصارات متعددة في كافة المحافظات، ولم تتوقف هذه الحرب على مراكز المحافظات، بل وصلت إلى أقصى بقعة نائية من خارطة اليمن، في خطة حكومية هي الأولى من نوعها وقد حققت نجاحاً منقطع النظير. غير أن الواقع بقي يفضح ما يقولون ويكشف زيف ما يدّعون، حيث وصل الصوت من خارج الخارطة العربية يؤكد فيما لا يدع مجالاً للشك أن اليمن أصبحت «من أفقر بلدان العالم» بسبب الفساد والرشوة وغياب المساءلة، وتغييب العدالة والمساواة، وضياع التقسيم العادل لثروات البلاد، وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى أنها - اليمن - أكثر معاناة من سوء التغذية، والجوع، وغياب أبسط مقومات العيش، مثل الحصول على الخبز والمياه الصالحة للشرب والصرف الصحي، بالتوازي مع المجاعات الخفية التي لا تلحظها أعين كبيرة تعودت أن لا ترى إلا ما تشاء، في غياب فاضح للتخطيط والتنمية - هذا ما تم ترجمته في مؤتمر لندن الأخير بخصوص اليمن - غاضين طرفهم عن المناطق التي توالت عليها المصائب والنكبات والحروب لأكثر من عشرة أعوام كما هو الحال في صعدة وما جاورها، وأبين والبيضاء والضالع وشبوة ولحج وعدن، وما نتج عن هذه الحروب من دمار، وقتل، وموت، كاشفاً عن حجم معاناة لا يستطيع أن يدركها إلا من يملكون حسّاً إنسانياً ومشاعر مسئولة تجاه الإنسان، أما أولئك الذين لا يرون التقدم إلا في آلات الحرب، ولا يلمسون البناء إلا في ما يرونه من دمار وأنقاض، فسوف يستمرون في التغني بما تحقق من إنجازات واهية وكاذبة مدعين الوطنية التي لا تحمِل أدنى شك. لا شك أن اليمن بلد فقير ومصادره شحيحة، إلا أنه أيضاً لم يحظ بحكومة رشيدة قط، حيث تعاني من فقر شديد في الشخصيات الوطنية، والقيادات المؤثرة، والاقتصاديين الأذكياء، بالإضافة إلى كونها دولة تعاني من الأزمات المتتالية منذ فجر ثورات التحرّر في ستينيات القرن المنصرم و إلى ما خلفته النظم السابقة من تركة ثقيلة وصعبة تم توريثها في كلا شطريه، نظم كانت تمارس الفقر والإذلال والتجويع والإرهاب، كسياسة وخارطة طريق للاستمرار والبقاء. إن الفقر يضرب في كل مفصل من مفاصل البلاد معلناً حرباً شرسة بأيدٍ يمنية اختارها الشعب ووضعها في موضع القرار لكي تخفف عنه من آلامه وتتبنى طموحاته، لكنها ما لبثت أن وصلت إلى موقع صنع القرار فأمسكت بسوطها، وتولّت مهام الجلاد، وجلدت الشعب جلدات مميتة لتطهيره من دنس الثقة التي وضعها فيهم ولكي تطهره من ذْنب اقتناعه بها حتى جعلها في المكان الخطأ. في حقيقة الأمر .. أعتقد أنه لا يوجد أدنى شك عند اليمنيين من أصغرهم إلى أكبرهم، إن الواقع الذي نعيشه وتعيشه بلادنا، هو بسببنا نحن أولاً كشعب غير واعٍ، وغير مسئول، حيث لم نختر لبلادنا قادة من الأكفاء، الذين سيحملون همّ الوطن بكل شرف ونزاهة، عندما يحين موعد الانتخابات - بكافة أنواعها - يتم التصويت بحسب المذهب أو الحزب أو الفئة، وإذا لم يكن الوعي قد وصل إلى هذه المرحلة، فإن التصويت يتم بحسب من يدفع أكثر، بلد حرية شعبه قد تم شراؤها بثمن بخس ريالات معدودة، فيتم التصويت بها لهذا الشخص أو ذاك.. ليس كونه كَفْء، بل لأنه دفع أكثر من منافسيه، ولا يدرك المواطن الذي باع ضميره مقابل بيسات، وربما مقابل وريقات من القات، إنه بهذا الفعل الشنيع - الذي يجب أن يُعاقب عليه - قد رمى باليمن في هاوية الفقر وفي مكان سحيق من المجهول، لأن من يتحكّم وسيتحكّم بمصيرها حفنة من الفاسدين ومصاصي الدماء، و سيمتصون ما بقي فيه من رمق الحياة، و يحققون مآربهم وغاياتهم، فليس لهم سبيل إليها إلا بالترشح ومن ثم شراء الذمم فهم يثقون جيداً بالشعب المرهق جوعاً، وبثقافته المتدنية وفكره المحدود ووعيه المفقود. إن اتفاقنا جميعاً بأن اليمن في أيدي الريعيين من البشر بسبب سوء اختيارنا لهم سابقا، يجعلنا نتفق أيضاً بأن هؤلاء أيضاً يحاربون كل عوامل التغيير، ويناصبون كل الشرفاء العداء ويقاومون كل عامل قد ربما يساهم في زوالهم بقوة وشراسة، وما الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة التي تظهر وتختفي فجأة إلا دليل على نزعتهم العدوانية يظهرونها متى أرادوا، لمحاربة الوطن الذي صبر عليهم وعلى بلاويهم سنوات طويلة وأعوام مديدة. لهذا السبب وذاك نؤكد أن ما سمي “بالإنجاز الاقتصادي الكبير” لليمن لن يكتمل ما لم تكن هناك إدارة كفوءة ونزيهة ووطنية لتنفيذه على أعلى المستويات، ولن تتم عملية الإنقاذ بمعزل عن تبني استراتيجية جادة وقرارات شجاعة لمحاربة الفساد، بالقضاء على الازدواج الوظيفي عبر استكمال نظام البصمة، والصورة البيولوجية، في كافة أجهزة الدولة، وإلغاء الاعتمادات الخيالية للمشايخ، والأعيان، والمسئولين في جهازي الدولة المدني والعسكري والأمني، وكذلك بإلزام جميع الجهات الحكومية بالانتقال من المدفوعات النقدية للأجور والمرتبات إلى المدفوعات عن طريق استخدام الحسابات المصرفية في المؤسسات المالية والبريد، وتحصيل متأخرات الكهرباء والمياه والهاتف التي وصل حجمها مئات المليارات من الريالات، بعد ربط كافة الحسابات المصرفية والبريدية بقاعدة بيانات وزارة الكهرباء والمياه والاتصالات، وسداد قيمة الفواتير باستقطاعها على هيئة أقساط شهرية، وهذا بالتأكيد سيرفد خزينة الدولة، حيث كانت مبالغ ضائعة وكان استردادها في عداد المستحيلات. [email protected]