حين تفقد الدولة هيبتها لا تقتصر النتيجة على نشوب حالة الفوضى الأمنية والسياسية لصالح كيانات ما قبل الدولة, ولكن تتحلل منظومة الأخلاق شيئاً فشيئاً, وتستمر أوراق القيم في التساقط اللاإرادي من شجرة الإنسان, حتى تضيق مساحة (العيب) إلى أدنى مستوى, ويصبح كل شيء في حكم الممكن والجائز, ولعلكم تلاحظون أنه لم يعد هناك اليوم ما يندهش له الناس, أو ما يرفضون تصديقه. لم نفقد الدولة فقط حين سقطت هيبتها, وإنما افتقدنا أنفسنا نحن المواطنين الذين سقطت هيبتهم فيما بينهم وهيبتهم أمام نوازع النفس.. هذه الهيبة التي كنا نعيش بها ونتعايش, ونحجم عن كثير مما تدفعنا إليه نفوسنا وأمراضنا الراسخة في أذهاننا.. الهيبة هنا هي الاحترام الذي نتبادله ويلزمنا بتذكّر أننا بشر لا ثيران تتناطح. بغياب هيبة الدولة هناك الكثير مما نفقده بوصفنا مواطنين وليس بوصفنا شعباً تقوده مؤسسات ولا بد أن تحكمه أنظمة وقوانين, فسقوط هيبة الدولة يجري معه اليوم سقوط هيبة المعلم أمام تلميذه (أحد مديري المدارس في تعز يتعرض للضرب من مجموعة شباب على خلفية عقابه لأحد الطلاب) وسقوط هيبة العالم أمام الجاهل (أحد العلماء في تعز يتعرّض للضرب من أحد الضباط) وسقوط هيبة الوالدين أمام أبنائهم (آباء وأمهات يتعرّضون للضرب من أبنائهم) وربما سقطت هيبة الإنسان أمام نفسه في لحظة يأس وعمى فيسلّم نفسه للموت كحل وحيد لإخماد الصراع النفسي (شباب وأطفال بأعداد متزايدة خلال فترة وجيزة أقدموا على الانتحار شنقاً), وغير ذلك من معالم السقوط التي نتحول فيها إلى مهووسين بالعنف الجسدي وتأديب الآخر, وكأننا نرث الدولة ونتقاسم ما هو حق خاص بها, أو أننا نأخذ ما تخلّت عنه من خصوصياتها فنمارس كل هذه الأخطاء على بعضنا من منطلق أن كل واحد فينا يرى نفسه (دولة) لها أن تصنع ما تريد. هي بالفعل انهيارات متتابعة تفرض نفسها في ظل غياب الدولة التي تصنع, لو حضرت, ما لا يصنعه غيرها.. لنتأمل ما قاله قديماً أحد العلماء: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). بوجود الدولة تستقيم حياتنا وتنفتح أسارير القلب وينبعث الأمل.. فهل من المعقول أن نعيش على أمل وجود دولة نحيا بها في حين الآخرون مشغولون بهموم التطور ومزيد من الرفاهية؟. هل يُعقل أن نشيب ونشيخ في وطن لا نزال نبحث فيه عن دولة.. كم يشعرني بالأسى أن أجد إنساناً مثل عبدالرحيم محسن ربما يكون قد جاوز الستين من عمره ولايزال يطلق صرخته للعالم: (نشتي دولة)؟ نعم (نشتي دولة).. إن خير ما تصنعونه للناس يا ساسة اليوم أن تمنحوهم دولة يشعرون فيها بوجودهم وتنطلق في ظلها أحلامهم.. فهل حان وقت ذلك أم لم يحن بعد؟. [email protected]