آفاق فكرية «4» .. حاجتنا إلى الهويّة الوطنية لا تمنعنا من تتبُّع تغيُّر الهويّة اليمنية عبر عصور التاريخ التي مرّت بها اليمن منذ ظهور هذا الكيان سياسياً في جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام بقرون كثيرة على اختلاف المؤرّخين في ذلك، لذا لم نحدّد رقماً.. المهم كان هناك كيان سياسي اسمه يمن، هذا الكيان لعبت ظروف عديدة على تشكيل هويته، لأن الهوية ليست كياناً جامداً بل إن “هوية شعب ما تتشكّل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى” (1). ولعل العامل الجغرافي واضح لدينا في تشكيل هذه الهوية اليمنية من خلال هذا التباين بين الجبال والسهول والسواحل التي انعكست على التركيب السكاني لنا، بل خالطت الوجدان الشعبي؛ فأطلق على المناطق التي تبدأ من سُمارة شمالاً اسم «اليمن الأعلى» وما تحت ذلك «اليمن الأسفل» وصارت تعرف أيضًا باسم أهل «مَطْلَع»ْ وأهل «مَنْزَلْ»..!!. ولا ننسى السواحل الغربية على امتداد التهائم التي لها تقسيم آخر، حيث سمّيت السواحلي مقابل الجبالي الذين هم غيرهم، هذه التقاسيم الجغرافية أثّرت على السكان وصبغتهم بصبغتها، بل لعبت هذه التضاريس دورها في انتشار المفاهيم والأفكار، ومن ذلك المذاهب الدينية لدينا، فالمذهب الزيدي - على سبيل المثال - يكاد ينحصر في المناطق العليا، ولا يوجد له صدى في مناطق السهول ولا السواحل رغم أن الإمام أحمد حميد الدين - رحمه الله - قد نقل عاصمة دولته إلى تعز بعد مقتل والده في عام 1948م، واستقر هناك حتى وفاته؛ لكن المذهب لم ينتقل معه. ويذكر التاريخ ثورة الفقيه سعيد صالح العنسي التي كانت في سنة 1256ه/ 1480م ضد الإمام الهادي محمد بن أحمد وضد حكم الإمامة، “وامتد سلطانه من زبيد غرباً إلى يافع شرقاً، وشمل منطقتي تعزوإب”(2). لكن تلك الثورة انتكست عندما خرج عن الغطاء الجغرافي المحيط له، رغم الأسباب التي ذكرها المؤرّخون من منافسة الفقيه سعيد الإمام أحمد الهادي في الإمامة مما أثار عليه إنكار فقهاء الجنوب الشافعي المتمسك بنظرية الإمامة في قريش (3) لكننا نجد توسّعه وصدى دعوته في النطاق الجغرافي الذي خلّفته دول حضارية سابقة له كالصليحية والرسولية.. الجغرافيا.. صناعة التاريخ لو عرّجنا على علاقة الجغرافيا بالتاريخ؛ سنجد أن الجغرافيا أقوى من التاريخ - لا شك، لماذا..؟!، لأن الجغرافيا تحكم وتصنع التاريخ، ولكن التاريخ لا يحكم الجغرافيا ولا يصنعها (4) فهل يصدق هذا على اليمن..؟!. من يطالع التاريخ يكتشف أن أعظم دول اليمن الحضارية في العصر الوسيط تمركزت في مناطق الانبساط الجغرافي كالصليحية في إب والرسولية في تعز، صحيح أن الأيوبيين قد مهّدوا الطريق للرسوليين في صناعة دولتهم؛ لكن هؤلاء الأخيرين أيضًا مهّدوا للطاهرين الذين شيّدوا دولتهم العمرانية، فكانت حلقات متتابعة. كل هذا أثّر في الأحفاد الذين يعيشون في هذا المناطق أو استوطنوها، فعلى الرغم من أن اليمن افتقر إلى وجود دولة مركزية خلال معظم فترات تاريخه الإسلامي حتى ستينيات القرن العشرين؛ إلا أن المناطق التي تعيش فيها قبائل حمير ومذحج وكندة شهدت تأسيس بعض الدول التي اتسمت بطابع مؤسّسي منها الدولة الأيوبية، الرسولية، الطاهرية، ثم الاحتلال العثماني والإنجليزي، فيما خضعت المناطق التي تسكنها قبائل حاشد وبكيل للدولة الزيدية التي اتسمت بطابع فردي بونابرتي، ولم يؤسّس الأئمة الزيديون أية مؤسّسات حكومية خلال تاريخهم، فقد كانوا خلال تلك الفترة كلها أشبه بحركة تحرّر تخوض حرب أغوار، بل إن الجيش الذي قاده الأئمة الزيديون كان جيشاً قبلياً، وذلك خلافاً للدول التي قامت في مناطق قبائل حمير ومذحج وكندة التي أسّست جيوشاً محترفة، ومؤسّسات حكم؛ لذلك تعزّز الطابع الحربي لقبيلتي حاشد وبكيل وضعف عند القبائل الأخرى. وعلى الرغم من أن النظام عمل منذ 1990م على إحياء البنى والعلاقات القبلية في هذه المحافظات؛ إلا أن السكان المحلّيين فيها ظلّوا متمسّكين ببعض التوجُّهات المدنية التي اكتسبوها خلال العقود والقرون الماضية(5).... وللحديث بقية. الهوامش: 1 سؤال الهوية، د. عبدالوهاب المسيري، موقع الجزيرة نت، بتاريخ -01 -08 2007 م. 2 مائة عام من تاريخ اليمن الحديث، د. حسين عبدالله العمري، دار الفكر، دمشق، ط1، 1984م ، ص:293. 3 نفسه. 4 صفحات من أوراقه الخاصة د. جمال حمدان، إعداد وتقديم د. عبدالحميد صالح حمدان ، دار الغد العربي القاهرة، ط1، 1996م، ص:64. 5 القصر والديوان: الدور السياسي للقبيلة في اليمن، إعداد/ د. عادل مجاهد الشرجبي وآخرون، المرصد اليمني لحقوق الإنسان، صنعاء، 2009م، ص:51.