نستهل هذا المقال بعبارتين ذات دلالة عميقة تخدم فكرة الموضوع، الأولى ل «غاندي» يقول فيها: «التسامح قانون البشر، واللاتسامح قانون البهيمة».. والثانية للأستاذ «نبيل كحلوش» تقول: «لستُ متأكداً من وجود مَنْ يقبلُ أفكاري، لكنّني متأكّدٌ مِنْ وجود من يُعارضها». حيث تؤكد الأحداث التاريخية أن الصراع لا يحقق سلاماً حقيقياً ودائماً، وإنما قد يفرض سلاماً ظاهرياً مؤقتاً بالقوة، وأنه ينهار مع هبوب أول نسيمات الحرية والديمقراطية.. من هذا المنطلق فإن أول طريق للسلام الحقيقي والدائم، يكمن في الانتقال من الصراع إلى الحوار. في الواقع، لا يمكن إنهاء الصراع أو العُنف تماماً ولا إلغائهما كليةً.. إذ لا بدّ من الأخذ في عين الاعتبار بأنّ عاملي «الصراع والعنف» هما نتاج ل «الكراهية» التي تغذيها «العداوة».. والتي لا زالت غريزة أو طبيعة مغروسة في نفوس البشر، ولهذا يرتبط مدى وجود الصراع والعنف ومستوى حدتهما بمدى استمرار وبقاء الكراهية، ومستوى توليدها للعداء.. ولذلك يمكننا فقط التخفيف من حدتها عن طريق التحكم في الشعور بالكراهية وبالتالي كسر جماح العداوة، الأمر الذي سيؤول بنا إلى التحكم في نسبة العنف وكبح حدّة الصراع. ويقتضي التحكم في الكراهية ضرورة تغليب نقيضها، وهي قيمة «المحبَّة» كونها ليست ترَفًا عاطفيّاً أو شاعرياً رومانسياً، وإنّما هي ضرورة بشريّة عالمية نابعة من عاملين رئيسيَّين، الأول: هو ضرورة التعايش رفقة كائنات تستحق المعاشرة والاحترام، وفق المعاملة الحسنة المفروضة أخلاقيًّا. ومن هذه المعاملة وضرورتها تنبع المحبة. العامل الثاني: هو حُبّ البقاء والنفور من الألَم الذي تُسبّبهُ العداوة.. ومن هذا التشبث بالبقاء تأتي محبّةُ من يريد الإنسان البقاء معهم لكونه كائن اجتماعي من جهة، ولكون بقائهم يُعزز بقاءهُ من جهةٍ أخرى. قد يتساءل أحدنا قائلاً: كيف يكون إذن نشر المحبة انطلاقا من واقعٍ يحيط به الصراع والبغض من كل جانب؟ نقول إنّ المؤسسات هي الحل في نشر المحبة، ومن خلالها سيتم الانتقال من الصراع إلى الحوار.. ولا يرتبط تطبيق ذلك فقط، بالتحلّي بالقيم الأخلاقية وشحنها في النفس، رغم أنّ هذه الخطوة هي الأساس قبل أيّ خوضٍ في حوارٍ سلمي، ولكن لا بدّ من تجسيد هذه المحبّة على أرض الواقع عبر تجسيد مُسبّباتها وبناء المؤسّسات التي تعملُ من أجلها وتُؤدّي إليها وتُرسّخها في المنظومة القيميَّة للرّوح الإنسانية والتي يمكنها أن تؤسس لثقافة لا تقوم على الإقصاء والإبعاد والإرهاب.. وإنما تقوم بتقريب الأفكار والنفوس معاً وحلّ المشاكل بأوضح المناهج وأكثرها بساطةً وبُعداً عن التعقيدات المشبوهة. إنّ العصر الذي نعيشه يُعتبرُ عصر المؤسّسات بحقّ، لذلك فلا يكفي أن ننشط كأفراد فحسب، إنما أيضاً أن ننشط كمؤسّسات، إذ كلّ قيمة فكريّة إذا ما قرّرنا جعلها قيمة مادية واقعية في هذا العصر والذي بعده.. لا بدّ من تمريرها إلى المؤسسات لتتبنّاها وتُؤسّس لها على أرض الواقع. وأول هذه المؤسسات أهمية هي المؤسسة التعليمية التي يجب أن تقوم بتربية الأجيال القادمة على أساس الاحترام المتبادل، والمحبة والتعاون.. وتقوم بتعليمهم قيم التعايش وتغرس في وعيهم أنّ قيمتهم لا تتحدّدُ بجنسهم وألوانهم ولا بمستوياتهم الاجتماعية، وإنما تتحدد بأخلاقهم وتواضعهم وتعاونهم أي بقيمهم الإنسانية، كأفكار نابضةً بالحياة تجسد على أرض الواقع.. إن النتيجة المنتظرة لمثل هذه الرسالة ستؤدّي إلى بناء نفوس تحترمُ بعضها بعضاً وتُحبّ بعضها رغم الاختلاف.. إذ قد علّمتهُم مبدأً هاماًّ في حياتهم.. وهو: «إن الاختلاف في الرأي لا يُفسدُ للودّ قضيّة». المؤسسة الثانية في الأهمية لزرع قيم المحبة ونبذ الكراهية والعنف، هي المؤسسة الاقتصادية التي تتبنى أنشطة اجتماعية هادفة ذات طابع إنساني سيكون لها حتماً فائدتين، الأولى: تتصل بالعمال والموظفين، إذ أنها ستنتشل الكثير من الفقر ومن البطالة.. الفائدة الثانية: بالنسبة إلى المجتمع المدني، إذ أنها ستقوم بإعانة المئات، بل الآلاف بطريقة تُمكنهم من العيش بكرامة بعدما ساهمتْ في التقليل من معاناتهم. كما أنّ الشيء الملفت للنظر في مشروع مثل هذا، هو أنها حتى وإن كانت شركة من هذا النوع متعددة الجنسيات. المؤسسة الثالثة في الأهمية هي الإعلام التي ينبغي أن تقوم على أساس ثقافة الحوار تعمل على أداء مسؤولية إنسانية تتمثل في التقريب ومنح فرصة للآخر حتى يُعبّر عن موقفه ويشرح وجهات نظره.. تتكفّل ببناء وعي اجتماعي ويرمي إلى تحقيق الأهداف وبناء المشاريع التي تُطوّر وتقارب، ولا تُهدّمُ وتُباعد.. مؤسّسة إعلامية ليست كباقي وسائل الإعلام التي تبحث عن المادة الاستهلاكية، وإنما تبحثُ عن المادة الإنتاجية، أي أنها تُنتجُ الأفكار والأهداف وتصنع الشخصيات والمشاريع ثمّ تعمل على جعل الرّأي العام يسير نحو تلك الأهداف.. وتصعد دائماً بقوة الدفع التي يصنعها الفكر في الإعلام والإعلامُ في الفكر.. تنهض بتجربتها على ضوء هذا “النموذج الراشد”. ومهما يكن من أمر، فإنه حتى يكون المستقبل الذي سنذهب نحوهُ مليئاً بالأنوار والبشائر.. فلا بدّ من اليوم تصفيةُ أذهاننا ومراقبة أحوالنا والنظر بجدٍّ في زمننا ومُجانبة الفتن ما ظهرَ منها وما بطن. [email protected]