إن التمعن في تاريخ الإنسان يبين لنا خصائصه النفسية وسماته السلوكية الإيجابية منها والسلبية، وطرق تأثره بالظواهر الحياتية المحيطة، وتأثيره فيها، وبالتالي يمكننا من اكتشاف أسباب الانحدار نحو الأسوأ، وسبل التغيير نحو الأفضل. في الواقع، إن للإنسان مشاعر وحالات مزاجية مختلفة، كما له حاجات متعددة: إنه يحب، ويبغض، يغبط، ويساعد، ويحقد، ويحسد.. يرضى، وينزعج، ويقبل، ويرفض.. يفرح، ويحزن، ويخاف، ويطمئن.. يصدق، ويكذب، ويفي، ويخون، ويثق، ويشكك.. يكسل، وينشط، ويتحمس، ويتقاعس.. يشارك، ويستغل، ويطمع.. يحس، ويتخيل، يخطئ، ويصيب، ويتوهم.. يعتاد، ويأنس، ويألف، ويستوحش، ويستغرب.. يتأثر بترغيب غيره له وترهيبه، وكذلك بتشجيعه وتهديده.. إنه ينخدع ويحتال عليه.. وبالمقابل، لا يستطيع أن يحيا منفرداً، ولا يمكنه تحقيق حاجاته وحيداً، فالجماعة ضرورية لحياة الإنسان وتطوره، وهذا يقتضي توزيع الأدوار الاجتماعية، وتنظيمها فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، لكي يعيش متوازناً، مع تغليب القيم الإيجابية. من هذا المنطلق، فكما كان هناك من يبحث بصدق ويفتش عن الإجابات بإخلاص هناك من يحاول استغلال حاجات الناس انطلاقاً من رغبته في السيطرة والشهرة والراحة، فيحتال، ويتخذ الدجل طريقاً، وهناك نوع لا تناسب أهواؤه تعاون الناس، بل يرقى باختلافهم، ويقتات على قتلهم، ويعيش بذخاً من جهلهم.. وإذا تأملنا في تاريخ الإنسان لوجدنا الحروب وحملات السلب والنهب مصاحبة له في كل العصور، فالتطور يسير بمحاذاة القهر، وكلما ازداد تطوراً ازدادت أدوات القهر شراسة وقسوة.. وينتج عن هذه الممارسات غير الإنسانية حالة استياء واسعة وعميقة في نفس الإنسان، ويعبّر عنها غالباً، بالشكوى والتذمر والذم والسخرية. وقد سبق للأستاذ (محمد ناصر) أن تطرّق إلى هذه القضايا في أكثر من مناسبة، حيث تعودنا في كل شكوى نقدمها حول ما يحدث من ظلم وفساد واحتيال وتضليل أن نلقي اللوم على غيرنا، ونتعجب!!!.. لقد تعودنا أن نتساءل بأسف كيف أصبح حال الدنيا وحال البشر؟.. وكأننا مستثنون من كل ما يجري وبريئون من كل ما يحدث، كل منا يشكو من الآخرين كيف أصبحوا فاسدين؟.. وإذا نظرنا إلى الوضع الاجتماعي والسياسي القائم، انطلق لساننا باتهام وسائل الإعلام والقوى الخارجية بأنها السبب وراء كل ذلك، وكأن الذين يعملون في وسائل الإعلام ليسوا من عامة الشعب؟! وكأن القوى الخارجية ليست تستغل نقاط ضعفنا؟!.. عندما ننتقد أسلوب العمل في الدوائر الرسمية نقول: “أفٍّ عليها من دولة” مع أن الذين يقومون بوظائف الدولة ويتلقون الرشاوى ويتعاملون بلا ضمير رادع ليسوا إلا منا نحن!! من عامة الشعب!! من الناس الذين نلتقي بهم هنا وهناك!! فإذا كنا نحن الذين نمارس الفساد الذي يحدث في الدولة فبربكم من هي هذه الدولة التي نذمها ومن الذي جعلها أهلاً للمذمة؟ ألسنا نحن؟! وعندما نواجه أشخاصاً متذمرين يسيئون الأدب في قيادتهم لسياراتهم فلا يتحملون الانتظار فإننا نقول: “أفٍّ عليه من شعب”.. مع أن الذي أساء التصرف سيتبنى نفس الموقف ويذم من يسيء إليه، ويقول: “أفٍّ له من شعب”.. فمن هو هذا الشعب الذي يذمه كل منا؟.. أليس هو مكوناً من مجموعنا نحن؟. عندما نتذمر من الغش الذي نتعرض له، ونصف المجتمع بالانحلال، فمن نقصد؟ أليس التاجر الذي غشنا هو نفسه إذا ما غشه أحد يتخذ نفس الموقف الذي اتخذناه؟.. وكأنه ليس من طائفة الغشاشين!. وذاك الذي يعمل في وسيلة إعلامية، يصفها بأنها مضللة ومروجة للفساد، وكأن للمؤسسة الإعلامية كيان بمعزل عن العاملين فيها.. فماذا يقصد من ذمّه؟! وذلك المعلم الذي يتذمر من سلوك وتصرفات التلاميذ، ويتناسى أن ابنه أو ابنته منهم، ولكنه يغض الطرف عن أنهما يمارسان ما شكا منه، عن أي تلاميذ يتحدث؟!. وأولئك الأهل الذين يذمون أساليب المعلمين في معاملتهم للطلاب، وينسون أن المعلم بشر مثلهم، له حياته الخاصة كما لهم، ويذمهم كما يذمونه، ويتذمر من أولادهم كما هم يتذمرون من أولادهم، إلا أنهم يطلبون منه أن يتحمل كل إساءاتهم، وكأنه ليس عليهم أن يتحملوا شيئاً. ما أكثر التذمر الذي نبرزه عندما نعلم بتفشي تعاطي المخدرات في المجتمع، ونلقي اللوم على الذين يروّجونه وليس المتعاطين إلا ضحية. حينما نذم حزباً وأتباعه، ونتساءل بتعجب، كيف يوجد أناس يتبعون هكذا حزب وهكذا قيادة؟، وإذا استمعنا إلى من ذممنا سنجدهم يقولون عنا نفس ما قلنا عنهم، لأن كلاً منا يسلّط الضوء على سلبيات غيره، ولا يرى من نفسه وحزبه وجماعته إلا النموذج الحسن، ويبرر كل خطأ بأنه رد فعل مناسب.. أليست المشكلة تكمن في أننا نحكم على الأمور من منطلق واحد، من منطلق أناني، نرى القشة في أعين غيرنا ولا نرى القذارة التي في أعيننا. إن الاعتراض على سيطرة الثقافة الغربية على حياتنا لا ينتهي، والملام عندنا هو تلك الثقافة، وليس نحن الخانعين الذي يسهل التلاعب بنا والتأثير علينا. لماذا دائماً نسعى إلى رفع المسؤولية عن عاتقنا، ونحاول أن نتنصل منها، وننسى أننا مشاركون كغيرنا في إحداث المشكلة؟. ولكي يصير الوضع أفضل، دائماً نتساءل: ماذا قدّم الآخرون، وماذا فعلوا؟.. ولا نتساءل ماذا فعلنا نحن؟.. لماذا على غيرنا أن يغير وليس علينا ذلك؟. لماذا هذه العبادة لذواتنا والتقديس لأنانا، مع أن كل واحد منا كالآخر، علينا جميعاً واجبات ومسؤوليات وحقوق، فما هو حق لأحدنا، هو أيضاً، من حق الآخر، وما يضرنا كذلك، يضر الآخر؟.. فلماذا نميز أنفسنا عن غيرنا؟. لذلك كله، إذا أردنا من الآخرين أن يقوموا بواجبهم فعلينا نحن أن نقوم بواجبنا أيضاً.. وإذا أردنا من المفسدين أن لا يصدّروا إلينا فسادهم، فعلينا أن نكون محصنين لأنفسنا.. وإذا أردنا من وسائل الإعلام أن تكون إيجابية في التعاطي مع أخلاقيات المهنة، فعلينا نحن العاملين فيها أن نكون إيجابيين صادقين، وأن نتحلّى بقيمها.. وإذا أردنا من الدولة أن تكون صالحة، فعلى كل منا أن يكون نموذجاً للمواطن الواعي والنزيه والصالح، أولاً.. فليغيّر كل منا نفسه نحو الأفضل، وسنجد أن كل ما حولنا سيسير نحو الأفضل. [email protected]