- د. عمر عبد العزيز موسيقى الوجود هي المعادل المطلق لتجلي الظواهر المختلفة؛ لأن كل شيء في الوجود مموسق بالضرورة، وقد كان هذا البعد ومازال حاملاً رئيسياً للغنائية البصرية، وتوازن المعادلات البصرية سواء في اللوحة التقليدية أم مختلف التعبيرات التي تلجأ إلى وسائط أكثر تعقيداً، وفي المقدمة منها برامج الكومبيوتر. ليست الفنون البصرية إلا ظاهراً يحمل في طياته جوانب خفائية، أو إن شئت ما ورائية، فالظاهر الذي نراه إنما يحمل في دواخله أبعاداً موسيقية ونصّية، وأخرى معرفية مجردة، وثالثة مفهومية موصولة بوجهة نظر ومزاج المبدع، لذلك كان المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" من أوائل المتحدثين عن "واقعية بلا ضفاف" معتبراً أن كل واقعية فنية إنما هي رومانسية وتجريدية وتفكيكية في آن واحد، كما ذهب ذات المذهب كبار علماء الجمال أمثال أرنست فيشر وجورج لوكاش. إذا كان هذا شأن الموسيقى الكلية والبرازخ المعنوية والدلالية، فإن الفراغ لا يقل شأناً؛ ذلك أن الفراغ رديف التأمل بالمعنى البوذي، رديف الامتلاء بالمعنى" التاوي" الصيني، رديف الترقي بالمعنى الصوفي الإسلامي. لا يمكن للتلميذ أن يتعلم إلا إذا ترك فجوات زمنية، وتخلى عن مفهوم العلم الناجز السريع.. فالتعليم الديني التقليدي في ديار الإسلام لم يختصر في دراسة القرآن الكريم والأحاديث النبوية؛ بل أيضاً المتون النحوية والمنطق والتاريخ، والتراجم وغيرها.. وكان الفقيه المعلم يحفظ الدروس عن ظهر غيب، وينمي في الدارسين ذات الملكة، وبحسب كفاءة واختيار كل دارس، فيما كان الترحل في البراري، وممازجة العلم بالعمل أمراً لا مفر منه. الحفظ عن ظهر غيب يفتح فراغاً في استيعاب المعلومة.. لكن المرحلة التالية التي يدرس فيها التلميذ معاني الكلمات تفتح له كوة نور باهرة؛ لأنه يعرف معنى ما قد حفظه!. تالياً يبدأ في دراسة المعاني الشاملة للنصوص، فإذا به يشرب العلم شرب الحليب البارد لا الصبر المر؛ غير أن هذه المرحلة ليست نهاية المطاف، فالنهاية تتمثل في عجز الطالب عن إدراك المعاني الأكثر عمقاً، مما يجعله يلتمس من الله أن يفتح عليه، وان يقذف نوراً في قلبه. هذه المتوالية الرباعية في نمط التعليم الديني والدنيوي التاريخي تظهر لنا أهمية الفراغ والمساحات المفتوحة في نظرية المعرفة الإسلامية.. وعلى هذا يمكن قياس كل المعارف والممارسات بما في ذلك الفنون البصرية التي كانت وثيقة الصلة بهذا التعليم التاريخي. [email protected]