د. عمر عبد العزيز .. أكثر من أدرك هذه الحقيقة واعتبرها أساسا لفلسفة الوجود هم أنصار (التاوية ) الصينية، المتفاعلين مع التأمل البوذي . يقول البوذيون : أنت فارغ من أن تكون وحيداً في الوجود، فوجودك موصول بكل الموجودات، وإذا أردت أن تكون أنت فحسب فلن تكون !! . انك عندما تشاهد ورقة ما تنسى أنها جاءت من تفاعل التربة مع النبات والهواء والماء، وأنها بعد ذلك مرت بمراحل تتضمن كامل موجودات الطبيعة حتى تصير ورقة للكتابة فحسب، وعلى هذا المنوال ليس من موجود يمكنه أن يكون موجوداً بذاته، فهو فارغ في ذاته، ممتلئ بغيره من الموجودات . الذين يعتدون بالفراغ يرونه أكثر أشكال الامتلاء شفافية وإيحاء .. لذلك كان الماء والهواء بالنسبة لهم أساساً للفن والتعبير والعلاج .. بل وللتوازن بالمعنى الواسع للكلمة . يقولون إن الفراغ هو المعادل السحري للمادة القابلة للتشكّل في أي حيز .. وبالتالي فان مادة الفراغ هي الأنبل والاكثر حيوية في خصائصها الفيزيائية وتأثيراتها النفسية . وعندما استخدم المخرج السينمائي الفراغ بابتكاره المونتاج القائم على تقطيع اللقطات وايجاد رابط دلالي ومعنوي بين تلك اللقطات، فقد اثبت حقيقة موضوعية لم يكن يدركها من قبل وفي التعليم يلعب الفراغ دوراً حاسماً في العملية المعرفية التراكمية .. وقد أدرك الأسلاف هذه المسألة واستخدموها في تعليمهم .. حيث كان الصغير يحفظ الدرس عن ظهر قلب دون أن يعرف المعاني .. وبعد حين يتعرف على معاني الكلمات .. ثم في فترة لاحقة يتعرف على الدلالات الأشمل .. وفي المرحلة الأخيرة والرابعة يغوص في تفاصيل النص ويتجاوز مفاهيمه القاموسية الظاهرة إلى مستويات من التأمل والاستكناه. هذه المراحل في التعليم التقليدي تنطوي على إقرار مسبق بأهمية أن يبدأ التلميذ بالحفظ دون إدراك للمعنى .. كأنما يريدون الإشارة إلى أن هذه العتبة " الفراغية " بالذات هي الأساس المكين للمعرفة اللاحقة .. ذلك أن الادراكات المتتالية لأبعاد النص وأسراره تجعل الحنين إلى البداية مشفوعاً بالدهشة والاكتشاف . الفراغ رديف السكون والروية .. رديف الهدوء والطمأنينة .. يكون اْحياناً ضرورة للتأمل .. بل التأمل الصادر عن امتلاء مُسبق .. واحيانا يكون سلبياً قاتلاً كما الحال عند الذين يستمرئون الكسل لمجرد الكسل .. أو النوم الدائم دون أن يلزمهم المرض بالنوم .. أو كراهية العمل انتظاراً لبركات وإكراميات الآخرين . نحن الذين نصنع فراغاتنا الإيجابية وفراغاتنا السلبية .. لكن ذلك لا يمنعنا من اعتبار الظروف والتأقلم معها عندما تفرض علينا فراغا لا نرغب فيه . المقيم في فلسفة الفراغ ينام جيداً ويعمل جيداً .. يعمل ولا يستعجل، يؤدي دون قلق . الأساس لديه النظرة الرصينة الهادئة، والتحديق في الأهداف المطلوبة، وعدم اليأس . في الاسطورة الصينية قصة تقول إن رماة السهام تنافسوا على إصابة عين السمكة الخشبية المعلقة على وتد، وعندما سئل الفائز الوحيد كيف فاز ؟ قال : لأنني لم أكن أرى أمامي إلا عين السمكة ، فأصبتها . [email protected]