- نزار العبادي .. حتى هذه اللحظة وجنود وجنرالات الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن ممن مازالوا أحياء يكتبون ويروون قصصاً من تلك الأيام .. ومن المحزن لهم أنها حكايات غير مسرة، ومثخنة بالأوجاع والحيرة في آن واحد، فهم مازالوا يجهلون كيف هزموا في اليمن، وكيف خرجوا منها بعد كل تلك السنين من الاحتلال !؟ في كتابه «ملوك شبه للجزيرة العربية» وقف الجنرال «هارولد جاكوب» المندوب السامي البريطاني في اليمن آنذاك، وقف مندهشاً لمدى وفاء اليمنيين لأرضهم ، واستشهد على ذلك بحادثة «الشحر» عندما رأت بريطانيا كيف أن إيطاليا على الجانب الأفريقي بدأت تستقطب العمالة اليمنية لتشغيلهم في قواتها ، وكيف كانوا شرسين بالقتال في المعارك الإيطالية في شمال أفريقيا. يقول «جاكوب» : إن بريطانيا قررت تقليد إيطاليا في اليمن، فبدأت تجند اليمنيين في إحدى معسكرات «الشحر» وقامت بتدريبهم على السلاح، وبعد ان أصبحوا جاهزين أرادت القيادة البريطانية استخدامهم في بسط نفوذها على إحدى المناطق التهامية، فأبلغتهم مساءً بالاستعداد للرحيل مع حلول الفجر .. لكن قبل حلول الفجر وردت من قيادة الحركات البريطانية إشارة لاسلكية تفيد بأن المجندين اليمنيين استولوا على كل أسلحة وذخائر المعسكر وقتلوا قائده البريطاني وأحرقوا الثكنات ولاذوا بالفرار باتجاه المناطق التي كانت القوات البريطانية تعتزم مهاجمتها، لكنهم سبقوها للدفاع عنها بأسلحة وتدريب إنجليزي ويقول «جاكوب» : إن بريطانيا ارتكبت خطأ كبيراً حين لم تضع في حساباتها أن إيطاليا استخدمت اليمنيين في حروب ضد غير يمنيين، بينما بريطانيا أرادت استخدامهم لضرب إخوانهم من نفس البلد !! وهذا هو ما لايمكن أن يقبله الإنسان اليمني. أوردت هذه القصة لأنها شهادة يدلي بها العدو، وليس الصديق.. بما يجعلها اعترافاً صريحاً بأن مقاومة الاحتلال البريطاني في اليمن ارتكزت على قيم انتماء حقيقي للأرض والتاريخ والتراث ، ولم تكن ردود أفعال آنية رهينة ساعتها .. فاليمنيون كانوا مؤمنين بأن الاحتلال كيان غريب يتطفل على حياتهم ، وقد يستفحل فينهيها ويقتلها .. لذلك لم يتسكينوا لإرادة الظلم، وصوت المستعمر الذي كان كلما جرب خطة ما واعتقد أنه نجح فيها اكتشف في النهاية أنه أصبح أكثر بعداً عن غايته ، مما كان عليه في السابق. باعتقادي طبقاً لما سمعته من مناضلين وقرأته في مذكرات الإنجليز أن كل شيء في اليمن كان يقاوم الاحتلال بما في ذلك الحجر وبراميل القمامة التي اضطر بعض الثوار للاختباء فيها عندما تطارده قوات الاحتلال ، ومن يتصفح بعض ألبومات المناضلين في عدن مثلاً سيكتشف حقيقة أخرى هي أن نساء عدن لعبن أدواراً عظيمة في النضال وقد تعرضن بعضهن للاعتقال بعد ضبطهن بتنفيذ عمليات تستهدف الإنجليز. ربما مازال كثير من الجنرالات والجنود البريطانيين غير مدركين كيف انهزموا أمام شعب يكاد يكون أعزل في الوقت الذي كانت المملكة المتحدة «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» ، ذلك لأنهم ينظرون إلى القضية من زاوية عسكرية بحتة من غير أن يضيفوا لها جانب البعد المعنوي .. فالجندي المحتل لا يمتلك دافع القتال بينما المواطن اليمني كان لديه ألف سبب للمقاومة وألف حافز للاستبسال في المقاومة، وألف سبب يجعله مستعداً للتضحية بالروح والمال .! الجنرال «جاكوب» بعد أن سرد جميع مذكراته في عدن خرج مندهشاً من قوة إرادة الإنسان اليمني، ومن اعتزازه بنفسه وأرضه .. ثم من قدرته الهائلة على الصبر والتحمل ، لذلك وجدناه يقول :«لو كنت أملك سرية من هؤلاء المقاتلين اليمنيين لأمرت بقية القوات البريطانية بالعودة إلى بيوتهم والنوم مع زوجاتهم وملاطفة أطفالهم .. فهؤلاء يعني اليمنيين يقاتل الفرد منهم بشجاعة سرية كاملة! عندما نستذكر اليوم الثلاثين من نوفمبر 1967م فإننا لدينا بطولات وتضحيات وانتصارات حقيقية تدعونا إلى أن نكون سعداء، لكن البريطانيين عندما يستذكرون نفس المناسبة فعندهم مقبرة كبيرة في وسط عدن دفنوا فيها قتلاهم ، تدعوهم لحزن شديد وشعور مقيت بمرارة الهزيمة.