- د. عمر عبد العزيز .. التعريف النمطي للسرد بوصفه موصولا ً بالكلام لا يغني عن الحقيقة .. فالكلام ليس حمّالَ أوجه فقط ، و لكنه أيضاً حمّال صور و موسيقى و إشارات و دلالات تتجاوز المعطى القاموسي للمفردات .. و من هذه الزاوية يمكن الحديث عن غنائية السرد الذي تجلى عند سدنة الكلام و صناع الحرف أمثال أبي حيان التوحيدي و الحلاج وغيرهما .. غنائية السرد شكلٌ من أشكال النثر الشعري ، أو الشعر المنثور .. فالشاهد أن جبران خليل جبران " نثر الشعر و أشعر النثر" كما قال عنه الراحل الكبير عبد الله البردوني ، مما يعني أن نثر جبران كان مشبعاً بالغنائية و الموسيقى ، و الحال فإن العنوان الذي استخدمه الروائي العربي الاستثناء ( إبراهيم الكوني ) إشارة دالة في هذا الباب ، فقد كتب إبراهيم الكوني (ديوان النثر البري) و ضمّنه مجموعة من الأعمال القصصية ضمن سياق يعتمد الفصل و الوصل حتى كأن قارئ المجموعة يقرأ ديواناً نثرياً برويّ يتجاوز ما عهدناه من تقليد في السجع الاعتيادي و حتى كأن الكوني يتعمد أن يتجاوز (اللزوم) في الرويّ إلى (ما لا يلزم) .. فإذا كان أبو العلاء المعري كتب لزوم ما لا يلزم مضيفاً إلى القافية الشعرية تكراراً لازماً لحرفين أو ثلاثة في نهاية كل بيت فإن إبراهيم الكوني استغرق في الغنائية النصّية من خلال موسيقى الوجود و هو يتداعى مع سراب الصحراء بوصفه غواية و حراكاً و تحوّلاً و تجليات و مفاجآت ، ثم .. و هو يترحّل مع الرياح الجنوبية بوصفها تناغمات وصمت ووجوم وتحولات ، ثم و هو يتقرّى العوالم الداخلية لكائنات المدى المفتوح التي تقول فيما لا تقول ، و تصرخ فيما تصمت ، و تحيا في ما تموت . (ديوان النثر البري) اتكاء مفاهيمي على عتبة الانطلاق في النص السردي ، فالعنوان هو المتن ، و المتن هو العنوان .. إنه ضرب من الكتابة الواقعية ، السحرية ، البرزخية ، الهائمة في ملكوت المعاني و أحوال الوجود . يتقدم النص السردي للكوني ضمن متوالية تمازج بين عناصر الوجود بحثاً عن وحدة الوجود ، بل .. عن تلك الحقيقة الدائرية المنطلقة من نواة صلبة ، و طاقة جوهرية أشبه بالمعين الذي لا ينضب .. يكتب نصه السردي ضمن آفاق تتاخم المرئي و اللا مرئي ، الملموس و المجرد ، المتكون و الغائب ، الظاهر و المستتر ، و هو فيما يفعل ذلك لا يحيد قيد أنملة عن أسباب الحقيقة الأزلية : إن كل باق ٍ فان ، و كل فان ٍ متحول ، و أن كل خروج لا بد و أن يسبقه دخول ، و لا حياة إلا بموت ، و لا موت إلا بانتقال .. إن كل سبب للانتشاء و الفرح والسعادة لا بد له من مقابل مداه الألم والضنى .. تضمين مثل هذه الأفكار في نص سردي ينطوي على مغامرة إبداعية مؤكدة ، كما أنه حالة تَمثّل لموسيقى الوجود و أحوال الزمان حتى أن (زمكانية) الديوان النثري للكوني تنفتح على ثالوث الزمان و المكان و ما يتجاوزهما ، أي أنها تنفتح على زمان و لا زمان ، و مكان و لا مكان ، فإذا بالمثلث يستحيل إلى مربع ! هذا أسمّيه (دهراً) بدلاً من الزمكانية ، لأن الدهر يشتمل على الحدث ، فهو " دهر حدث " ، و على التحول فهو " دهر تحول " ، و على ما يتجاوز الحدث و التحول فهو " دهر للدهور " . قرأت منذ فترة مبكرة كتاب (بدائع الزهور و غرائب الدهور) و قرأت أيضاً للشاعر اليماني محمد محمود الزبيري : يوم من الدهر لم تصنع أشعته شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا فهل كان الزبيري يعتبر أن ذلك اليوم كأي يوم من أيام السنة ؟ و هل كان يحصره في الزمن الفيزيائي المعروف ؟ و هل كان يراه ثابتاً ؟ يقول المتنبي : و ما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر منشداً فالمتنبي هنا يقدم بياناً لزمن الإبداع باعتباره زمناً لا كالزمان المعروف بقواميسنا الفلكية ، تماماً كما كان يرى المكان الإبداعي بوصفه مغايراً للمكان المألوف .. أليس هو القائل : لك يا منازل في القلوب منازل ؟ .. سردية إبراهيم الكوني هي سردية غنائية بامتياز لأنها مشمولة بغنائية موسيقية وأخرى بصرية و ثالثة روحية ، و هي تعتمد مرة أخرى هذه الأقانيم الثلاث بوصفها مربعاً و دائرة و كل الاحتمالات الهندسية الأخرى ! [email protected]