- د. عمر عبد العزيز .. من السهولة بمكان استعادة التعريف الإجرائي المألوف للحواس الخمس بوصفها حواساً مقرونة بالبصر والسمع واللمس والشم والتذوق، غير أن مثل هذا التعريف لا يقدم الحقيقة كاملة، فكل حاسة من هذه الحواس لا تؤدي وظيفتها خارج البقية، أي أن الأصل في وظائف الحواس مقرون بالتواشج والتكامل بين هذه الحواس، ولهذا السبب فإن الذي يستخدم حاسة النظر بصورة أكثر عمقاً لا يستطيع ان يبدع في ذلك دون اللجوء إلى حاسة السمع ، ومثالنا على ذلك الفنان التشكيلي الذي يعتمد بصورة أساسية على البعد البصري، غير أن هذا البعد لا يمكنه أن يصل إلى مستويات متقدمة في التعبير إذا افتقد الفنان البعد السمعي والحاسة الموسيقية، ولهذا السبب يقال عن التشكيل بوصفه: "غنائية بصرية" ولهذا السبب أيضاً واستناداً إلى ثقافته الواعية كان الفنان الفلورنسي الكبير "ليوناردو دافنشي" يستمع إلى جوقة موسيقية وهو يرسم، ذلك إنه كان من المتعذر في تلك الأيام الغابرة من القرن الثامن عشر الميلادي أن يتم الاستماع للموسيقى بواسطة الجرامفون أو المسجل، ولهذا كان الفنان يستأجر جماعة موسيقية تعزف له أثناء أدائه الفني. وعلى ذات المنوال يمكن استقراء العلاقة بين حاستي الشم والذوق، فالمعروف أن مفتشي صلاحية المواد الغذائية يعتمدون حاستي الشم والذوق لتحديد مدى صلاحية الغذاء للاستهلاك الآدمي، وفي أحايين أخرى يضيفون المعاينة البصرية الحاذقة التي تساعدهم على تحديد أولي لصلاحية المادة الغذائية، فإذا ما قاموا بالشم والتذوق بعد ذلك تيقن لهم أن هذه المادة أو تلك تالفة. التركيز قيمة مطلقة في النظر إلى كيفية استخدام الحاسة الواحدة، بل كيفية تضافر الحواس للوصول إلى الهدف المطلوب، ففي الاسطورة الصينية ان مجموعة من رماة السهام تبارزوا لإصابة عين سمكة خشبية معلقة على عود، وفاز أحدهم بإصابة عين السمكة، وعندما سئل عن كيفية إنجازه الهدف قال: لأنني لم أكن أرى سوى عين السمكة، فيما بقية الرماة كانوا يرون السمكة كلها فلم يتمكنوا من إصابة الهدف "عين السمكة"!!. والتركيز يعني ببساطة شديدة استخدام الحواس بصورة متكاملة، فلا رؤية بلا سمع، ولا سمع بلا شم، ولا شم بلا تذوق.. وهكذا. ليست الحواس الخمس حالات متفرقة، بل إنها بطبيعتها تسبح ضمن منظومة من التواصلات الإشارية، بل إنها تتجاوز ذلك إلى ما وراء المرئي، فقد كان عيسى عليه السلام يلمس بيديه الموهوبتين، فيعالج الأكمه والأبرص، ويقيم المقعد والمشلول، وكانت لمسته بمثابة إكسير دواء للعلل، فاللغة بهذا المعنى لا تنحصر بالكلام بل بما يتجاوز ذلك، ولهذا السبب يلجأ المحب إلى التعبير عن حبه من خلال النظرة أو اللمسة الحانية، ويستشعر الطفل الصغير الحنان والأمان عندما تتم مداعبة شعره باللمس، مما يدل على أن تعددية الحواس لا تغني عن واحديتها، ولا تصل إلا بالإشارة والروح الشفافة. [email protected]