انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    "استحملت اللى مفيش جبل يستحمله".. نجمة مسلسل جعفر العمدة "جورى بكر" تعلن انفصالها    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الدكتور محمد قاسم الثور يعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصيدةُ الشبابية في اليمن.. مدارات النَّص .. حلقة القراءة ما بَعْدَ الأوَّليَّة
نشر في الجمهورية يوم 05 - 02 - 2007

إبراهيم محمد طلحةعندما يتعلَّق الأمر بالحديث عَنِ القصيدة الشبابية في اليمن، فإنَّ مِنْ ضرورات الرُّؤىة الأوَّليَّة التصدِّي للكلام على المدارات المفتوحة للنصِّ المُترابط في وقت الكلام على منظومة تواليفه التداوليَّة..في حلقةٍ سابقةٍ مِنَ الموضوع تناولنا المنظومة الشِّعْرِيَّة تداوليَّاً باستقراءٍ مُوسَّعٍ إذا ما قيس بكونه في صفحةٍ واحدةٍ تفاسَحَ فيها ثلاثةٌ وعشرون شاعراً مِنَ القطع الشبابي المُتجايل، واليوم نستأنف قراءتنا الاتّجاهية في منحى المدارات النصِّيَّة، استكمالاً لنقاشاتٍ
منهجيةٍ نَبَعَتْ بوادِرُها منذ أوَّليات التكوُّن الجيلي الشبابي، وفي ملفَّاته المُتراكمة في رُفوف الذاكرة الجمعية لشرائح المُبدعين الشباب.
نوافذُ النُّصوص الفواتح
{ في بوارق القصيدة الشبابية مُنْذُ "الرازحي" و"القعود"، و"ربيع"، و"هيثم"، و"أبلان"، و"مُفرِّح"، و"سالمين"، و"البُريهي"، و"الحارث"، و"السلامي"، و"المقري"، و"الجند"، وجمهرة الجيلين السبعيني - وامتدادهُ الثمانيني - والتسعيني وَمِنْ بَعْدَهُ جيل الألفية وإلى ما بَعْدَ هذه التجييلات، نلمسُ أنَّ تُخوم النصِّ الإبداعي تطَّرد بطريقةٍ عريضةٍ لَيْسَتْ مُمكنة الاختزال ها هُنَا، وسبق وأنْ ناقشنا مِنْهَا قدراً فسيحاً في مواضع ومواضيع مُتفرِّقةٍ مِنَ الصفحات الأدبية والثقافية، كان آخرها موضوع القراءة الأوَّليَّة التي صدَّرتها الصفحة الثقافية في "الثورة" أواخر رمضان المُنصرم، بعنوان "منظومة التواليف التداوليَّة في القصيدة الشبابية في اليمن"، وتسنَّى لبعض الإخوة الحصول على نُسخةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يتسنَّ لآخرين ذلك، حيثُ ومُعظمنا لا يأخذ "الجريدة" إلاَّ إذا نزل لَهُ أَوْ عَنْهُ موضوعٌ أَوْ قصيدة، مَعَ أنَّ الموضوعات المُهمَّة لَيْسَتْ مجالاً للمُساومة، ولا يعني أنَّ "طلحةً"، حينما يكتب في الموضوع الفُلاني، يجب أنْ يتّصل ب "أهل الشأن" جميعاً، ويُقدِّم بَيْنَ يديّ الكتابة إعلانات وقرابين "اعتراف" واحترام وتقدير، لأنَّ الاعتراف لأهل الفضل الإبداعي واجبٌ عينيٌّ، وإنْ لَمْ نُمهِّد لَهُ بسابق مودَّةٍ وتعارُفٍ، وللعلم فإنَّ مُعظم مَنْ أتناولهم غير معروفين بالنسبة لي على المُستوى الشخصي، ومعروفون على مُستوى القراءة، ولا أُحبُّ أنْ أدنو مِنْ سُلطة الخديعة التي تغشُّ كثيراً مِنَ المُبدعين لمُسبِّبات تعود - في غالبها - إلى "المعرفة" الشخصية ودواعي "الإحراج"!!
في سوابق الموضوع أشرنا إلى أنَّ "الأسماء" الواردة فيه لا تعني "الحصرية"، واليوم نقف على زاويةُ غير بعيدةٍ عَنِ المشارف الأُولى، وننظر غير بعيدٍ إلى فواتح النُّصوص مِنْ نوافذ لا مُتناهية، وَلَوْ شئنا الاستشهاد مئوياً بِشِعْرِ الطوائف الشابَّة لتداعتْ الأرقام أمامنا، وسنعبر إلى مقاطع بضعة أسماء، مُشيرين إلى أسماءٍ أُخرى لَمْ يتَّسع الوقت - وَرُبَّمَا الفُرصة - للاطّلاع على تجاربها عَنْ قُربٍ، وللموضوع - ولا شكَّ - بقيَّةٌ إلى حين.
مداراتُ المعاجم الشِّعْرِيَّة
{ حين نُشارف حدود المقاصد الشِّعْرِيَّة، نَشْتَمُّ روائح الطاقة النصِّيَّة في القصيدة الشبابية، مِنْ خلال التلابيب المعجمية المأخوذ بها في مدارات النُّظم الشِّعْرِيِّ الشبابي، ولا يُساورنا أدنى شكٍّ بأنَّ "مقامات" "العودي" - على سبيل المثال - هي مقامات الكلمة الشابَّة الشاعرة في أيِّ فرعٍ آخر داخل ديوانٍ آخر، وهكذا يُمكن توجيه النظرة مقاصدياً على امتدادات الوزن والقافية والتفعيلة والنثر المُتشعرنة جميعاً، وما أحسن ما عبَّر به الشاعر "أحمد السلامي"، إِذْ قال : "أُريدُ أنْ أكتب - فقط - مِنْ زاوية الشُّعور الشخصي بالأشياء"، شُعورٌ استلهمهُ بواسطة الأشياء - أيضاً - "مُحمَّد أحمد الشامي"، فقال :
"أستلهمُ الأشياء، أنخرُ طاقتي
للبحث قُرباناً لأبلغ مقصدي
والمقصد السَّامي بعيدٌ كُلَّما
دانيتُ أبحرهُ تباعد موعدي"
وتناهى إلى ما يُشاكل ذلك "الشامي" الآخر، "صلاح"، في أُهزوجةٍ نسجها "على شفق البُرتقال" :
"ترتدين السَّواد على شفق البُرتقال
تُذيبين آخر أُمنيةٍ
في تُخوم النَّوى
للنِّهايات أحلامها
حين ينسدل الخوف
مُستأنساً للحلول غوايته
ومكانته في الوجيب المُضمَّخ
بالانكسار"
وَكَمَا استقرَّ أديمُ "الشاميَّيْن" "نهاراتٍ مُنخفضةً" ل "سُلطان عزعزي"، واستقرَّتْ "يراعات" "خديجة المغنّج"، رَغْمَ نزيف "اعتراف"، واستقرَّتْ غُربة "السلام"، رَغْمَ "ارتباكٍ" مُستطير، في انفتاحٍ للأنساق باتّجاه الهيجان الخلاَّق، أَوْ في "تأزُّمٍ" للبُؤر الجمالية، على نَحْوِ ما نجدهُ عند "عبدالرقيب الوصابي"، وحشدٍ لطقوس القصيدة، على نَحْوِ ما نجدهُ عند "مروان الغفوري"، و"علي هلال"، و"عبداللَّه الفقيه" وآخرين، هي أزمة الكلام الجميل، كَمَا يقول "مرزاح" أَوْ فاتحة القصيدة، كَمَا تقول "ليلى إلهان"، فَمِنْ "تأزَّم" الأوَّل :
"خُذوا كُلَّ أشيائكم
لا أُريدُ النِّساء
ولا الأولياء
ولَسْتُ أُريدُ غُثاء الصَّبايا
أو قهوة الشِّعْر
أو تُرهات الخليل...
أنا وطني حيثُ تنبتْ لعنانتكم
فرحاً في أساريرنا
حيثُ لا يشتري النَّاس وجهي،
ولا يكسبون الدَّنانير مِنْ سجداتي،
إذا عدَّني في الضَّميرِ
القليل"
وَمِنْ "فاتحة القصيدة" الثانية، في "أضحوكة الزمن" :
"أسيرُ إلى وطنٍ يتَّسع بالأُمنيات
يكسر فضاءاتٍ
مِنَ الصَّمتِ والخديعة"
فكرةٌ فسَّرتها المدارات المُتداولة في غير ما محلَّةٍ مِنْ محالِّ القصيدة اليمنية المُعاصرة، وفي هذا الاتّجاه قالتْ الشاعر "خديجة المغنّج" :
"هذي أنا
مَنْ هزَّها القلم
مَنْ هاجها النَّغم
هذي أنا
مَنْ تكتم الجوى
مَنْ وارتِ الألم"
وهذه ال "الأنا" مكرورةٌ في قواميس الأداء الشِّعْرِيِّ المقصود في مداراتٍ مُتواصلة، تترابط في ما بَيْنَهَا مُتشابكةً كبنان اليراع أَوْ بُنيان القصيدة.
أبويَّةٌ فاخرة ... وبِرٌّ كالنعناع
{ لكُلِّ زمانٍ مُستجدَّاته، وزمان اليراع الشبابي في اليمن اكتسب تشكيلاتهُ مِنْ واقعٍ يُشبه تكاثر النعناع الواسع في التُّربة الواحدة، وذلك دُون العبور على "أبويَّة" النصِّ المُتقاسم بَيْنَ إخوة الكلمة، ف "الدوالُّ الكثيرة العالقة في دم (عبدالواحد السامعي)" تتعالق في "فضاءات العروش والخرائب" لدى "عبدالإله الشميري"، ثُمَّ يُواكب هذه الدوالّ والفضاءات "مروان الغفوري"، ليقول في "البلاد أبي" :
وَ... أَنْتِ، خُذيني إلى شجرٍ في بلادِك،
أو قدرٍ عاطلٍ في السَّماء،
فالبلادُ أبي،
وأبي تَفَّ أحلاقهُ في طريقِ أبي!"
زمان الأحلام المهراقة على قوارع النصِّ الموجوع، زمانٌ يُحيط بالعبارات الموتورة بمسافات الاغتراب، وَكَمَا يقول "قاصد الكحلاني" :
"هذا أنا
بَيْنَ بَيْنِيْ وَبَيْنِيْ
بلا وجهة
رتديني المسافات
أعبرُ مِنِّي إليَّ
ولا شيء غير اغترابي"!!
بِرُّ الشُّعراء بأبويَّة الجذور المعهودة : "الغُربة"، "الدوار"، "السُّؤال"، "الأنين"، "الحنين"، وهلُمَّ معنىً.
لعلَّ أشتات القصيدة تناثرتْ في أشلاء الشاعر، فبات على شفا "القُدوة"، لفظاً وطريقةً، وتداعتْ مُستويات التأمُّل في أنساقها "الأبويَّة"، فذكَّرتنا ب "الجينوم" الشِّعْرِيِّ المُتوالد مُنْذُ جيلٍ لا يزال حاضراً بأعمارٍ مُتقاربة، ونستمعُ إلى "تأمُّلات" الشاعر الدكتور "عبدالسلام الكبسي"، التي يقول فيها :
"كُلُّ
شيءٍ
غلبناهُ
إلاَّ المنون
كُلُّ شيءٍ
يسيرُ
إلى الخاتمة
كُلُّ هذا الوُجود القديم
سيُبعث
في مرَّةٍ قادمة"!!
وكأنَّ في القصيدة أنفاساً ترى المُستقبل بعينيِّ شاعرٍ شفَّافٍ، أَوْ أنَّ في مكنوناتها سِرَّاً مُستوحىً مِنْ مدى الانتشار الواسع والسريع لمناهج الشِّعْرِ الحديث في اليمن.
هويَّةٌ مُوحَّدةٌ للقصيدة، وتعدُّدٌ مُتقابلٌ، فُرادىً وأزواجاً، ودالَّةٌ هندسيةٌ تتوازى إلى جانبها دالَّة المعنى، شذر الأشكال ومذر المضامين قَدْ يتلاقى جُزءٌ كبيرٌ جدَّاً مِنْهَا هُنَا.
براويز النصِّ ... سحائب الصُّورة
{ داخل النصِّ الشِّعْرِيِّ سحائب مُتدفِّقة مِنْ مساحات الصُّورة تلتقي وتفترق في رحلةٍ واحدةٍ إلى مصيرٍ واحد، وهدير الماء والشجر والضياء والقمر والفجر والضُّحى والأحلام والأطياف، هديرٌ موفورٌ لا نحتاجُ إلى قُدراتٍ هائلةٍ لاكتشافه، لكنَّنا نحتاجُ إلى قُدراتٍ هائلةٍ لاستشعاره تباعاً مِنْ شاعرٍ إلى آخر، فهذا "أحمد الطرس العرامي" عند مُفترق الأماني :
"حيثُ :
(الأشياء أعنف
مِنْ غُموض حبيبتين)
حيثُ :
(نسيرُ على رُؤوس أصابع
الأحلام
كي لا نُزعج الموتى)"
يلتقيه "يحيى وهَّاس" :
"جسداً كُلَّما اشتكى مِنْهُ عضوٌ
يتداعى جميعهُ بالسُّهادِ"
لأنَّه عانق حُلُماً وتفيَّأ ظلاله :
"يا نديم السُّهاد هل لي بحرفٍ
ينفخ الرُّوح في ضمير الجمادِ؟!
يستشفُّ المدى يُعانق حُلُماً
تعبتْ فيه رحلة السّندبادِ"
وتكتمل التكاملات في "اكتمال" "سوسن العريقي" :
"لا شيء يكتمل ليبقى...
............................
لا شيء يكتمل ليحيا
............................
الشَّوق يتوهَّج لينطفئ
الموجة تكتمل لتتلاشى
الحُلم يتحقَّق ليموت،
وها هي مشاعري تكتمل
فهل أَنْتَ جاهزٌ للفُراق؟!"
وعلى غراراتٍ مُواتيةٍ ومُوازيةٍ يُؤدِّي "عبداللَّه حمود الفقيه" "صلاة الموت" على أنقاض الجُثث في بيروت :
"صلِّي صلاة مُودِّعٍ
للموت
وابتسمي بوجه الطَّائرات
فإنَّ نُور اللَّه في جفنَيْكِ
لَنْ تغتالهُ أيدي القنابل
صلِّي
وقُولي للدَّمار : أنا الحياة"!!
ويُؤدِّي "عبدالحكيم الفقيه" عادة الكتمان بطريقةٍ مُعبَّأةٍ بالجراح :
"هذا أنا
شجرٌ يمنح الظِّلَّ للحاطبين
أنا أمنحُ القاتلين الرَّغيف
الَّذي مِنْ طحين همومي
وأرشدهم صوب قلبي
لكي يتقنوا الطَّلقات"!!
في وقتٍ جمعتْ فيه "نوال الجوبري" أكثر مِنْ حُلمٍ :
"رسمتُ ما يكفي
لخلق شيءٍ ما
............................
هل عليَّ الاعتذار
عَنْ فعلٍ حدث في الحُلم؟!
............................
هكذا أُحبُّ أنْ أظلَّ وحيدةً
قبل أنْ تنفدَ كمِّيَّة الهواء
............................
هذا المعطوب
لَيْسَ أنا بالضرورة
حدث أنْ لامستْ أُمِّي
مواء ليلةٍ باردة
يُزعج قطَّتي"!!
وقدَّم "سيف رسَّام" إلى أُمّه اعتذاراتهُ بشكلٍ آخر :
"اعذريني
لأنَّني لا أُجيد التعامل
مَعَ صنمية التكنوقرصنة
وضمائر الإفلاس المُركَّب
............................
إلى أُمِّي
ذات موَّالٍ بطعم الغُربة
وعذابات الشَّجن الملائكي
............................
إلى أُمِّي
وهي تُعطّرني بجنائز الضَّوء
وموميات الأسى وهدير اليباب
............................
إلى أُمِّي
وهي تستنطق اللَّيل خلف وهمٍ جديدٍ لقدومي"!!
هروبٌ إلى عالمٍ مِنْ دُخان السلوى، أَوْ إلى "اللَّوحة الأُمّ"، كَمَا يقول "مُحمَّد الشلفي" :
"سوف أتنبَّأ بموتي
وأكتب قصيدةً تُدهش الميّتين
............................
تحمَّلتُ حقائبي ومضيتُ
لا أهتمُّ بالنِّساء
............................
تربَّعتُ غسق المدينة...
كانتْ خاليةً تماماً
إنَّها مشروع مدينةٍ قادمة"!!
مداراتٌ مِنْ نصٍّ مفتوحٍ على صُورٍ مُكتنزةٍ في أُطر الأيقونة العامَّة، تلك المُعبَّر عَنْهَا - دائماً - في قوالب الإلقاء السمعي والبصري المُدوَّن في الإصدارات أَوْ الملاحق الثقافية، وعلى نسقٍ بيضاويّ يُشبه مجرَّة الأفلاك المنظومة.
عَوْدَاً على شِعْرٍ
{ نقولُ : إنَّ مدارات النصِّ الحاضر هُنَا هي المدارات المُؤتلفة تداوليَّاً، وبناءً على فلسفة المذهب الذرائعي القصدي، فإنَّها سمةٌ تسير باتّجاه الإيجاب لا السلب، ولعلَّنا نستحضرُ مَعَاً مقالة عدد السابع عشر مِنْ أكتوبر حول الموضوع - والتي أشرنا إليها قَبْلاً - وفيها مُقدِّمةٌ في المفاهيم التداوليَّة مَعَ بعض التطبيقات، وفضلاً عَنْ هذا وذاك فإنَّ هذه التداوليَّة المُتآلفة ذات تكوينةٍ زئبقيةٍ - إذا صحَّ التعبير - فالأمثلة والشواهد التي ذكرناها للتوِّ، والتي ذكرناها في الحلقة الأوَّلية، تُواجَه بسيلٍ عارمٍ مِنْ أمثلةٍ وشواهد مُتناصَّةٍ مَعَهَا ومُتناسجةٍ في تراكيبها بقُوَّة، يقول "مُفرِّح" :
"حين أُحرِّك غُصن القصيدة في شجري
تهطلين رهاماً على شفتي
فأغفو...
............................
وترتقبين على طرف اللَّيلِ...
- خدَّاكِ مُلتحفان بكفّيكِ والأُمنيات براقكِ -
يوماً جديداً ... قصائد أُخرى...
رحيلاً ألذَّ إليَّ وإيَّاكِ مُرتبكين
ومُرتجفين وقوفاً
على طلل اللَّحظات"!!
ويقول "ربيع"، وَقَدْ أمعن في "بروق الكلام" :
"أقمتُ على ضفَّةٍ تستجيبُ للونٍ
تُشكَّل في أُمنيات الحيارى
وشيتُ إلى الشِّعْرِ
حين استبدَّ غُزاة (المقيل) بأوطاننا
وأراق الطُّغاةُ مواويلنا
في طبول الكلام
رأيتُ اخضرار الصباحاتِ
طيَّ الهواجس
والأُمنياتِ تلوكُ ارتجاع الصَّدى
والبيارق في غمرة الموتِ
تُهدي الرِّياح نُعوشاً
وتقبعُ تستف مِنْ عريها
مرتعاً للحداد"
ثُمَّ يقول "القعود" - أخيراً - في "تضاريسه" قبل أيَّامٍ :
"وقتٌ مبلول
بالأرق المجنون
وبالشَّغَب المنحاز
إلى كونٍ يتدفَّق أخيلةً
وذُهول"!!
إنَّهُ وقت المدارات، بنكهة المُحيطات والرمال والهوى والأزل، لذلك أجدني مُضطرَّاً - اضطرار الشُّعراء للضرورات الشِّعْرِيَّة - أنْ أُداهم الوقت القارس مَعَكُمْ، وأستطيل في السُّطور المُتبقِّية قبل الانصراف، فأقول "القوافي تتفَعْلَنُ كأوزان الهُزال
والشَّاعر لا يفتأ يهزج بالحيرة
بحارٌ مسجورةٌ مِنْ فوضى الوقت
تُوشك على الغليان المحموم
كبُركانٍ يُحِبُّ الثَّرثرة...
النصُّ مُعلَّقٌ مِنْ أهداب الرَّصاص
إلى ناصيته الخاطئة...
القوافي تمشي والأزمان تستنكف النّباح...
عَوْداً على شِعْر
قبل أنْ يُطلَّ وقتٌ
نفرُّ فيه مِنْ بقايانا...
وَمِنْ آخِرِ طلعةٍ في يراعاتنا المبحوحةِ
يا صديقي"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.