علماء الألسنيات توقفوا أمام أسئلة كثيرة تتعلق بماهية الكلام ،فعقدوا مقارنة بين النص وصاحبه من جهة ، وبين المرئي والمسموع من جهة أخرى ، فإذا هم أمام متوالية من ثنائيات لاتنقطع.. الظاهر والباطن ،المستتر والمكشوف ،المرسوم والمضمر ،المرقوم والمتواري ،المرئي واللامرئي ،الامتلاء والفراغ ،الأنا الكاتبة والكتابة.. إلخ .. وقد استجلى الشيخ/محيي الدين بن عربي هذه الثنائيات في معرض بحثه عن ماهية الحرف فقال مامعناه: إن الحرف رقم وصوت وروح ورسم ،وإنه يستمد حياته وكينونته من الوجود الكلي ، فهو في ظاهره ينتمي لأعيان الممكنات ، وفي باطنه يتجلى في عين الحقيقة على قدر بساطته ، ويستنفد المعاني والدلالات المدركة والغائبة ، وعقد الشيخ ابن عربي مقاربة بين هذه الثنائيات المفاهيمية فوجد أنها تتجوهر في «الواحدية» فهي جمع وإن كانت متفرقة وهي واحدة وإن كانت اثنتين ، وهي شمول وإن كانت متشظية ، فما نراه من تفرق ليس إلا صوراً تتداعى وتمر مر السحاب ، ولاتموت وإن تلاشت أو خبت ، وتلك الصور محكومة بضابط كوني مطلق يتجلى في «البرزخ» بوصفه المعادل الوجودي للثنائيات ، ومعادلاً يتوسط بينهما فيصل ، ويفصل بين هذه الثنائيات بوجوه متقلبة تقلب الأحوال والمقامات ، فإذا كان البرزخ هو الحاكم الضابط الجامع لأعيان الكلمات صوراً وظهوراً ومعاني ، فإن القطب الصوفي هو الضابط الجامع الحاكم لتجليات الخلق بتلاوينهم وتناقضاتهم وتدافعاتهم في الحياة. على خط متصل ، توقف «جاك دريدا» و«رولان بارت» أمام اللغة ك«تأليف» فقالا بموت المؤلف كل على طريقته لكنهما لم يفارقا الأصل الذي ذهبنا إليه ، فقد رأى دريدا أن التأليف ليس ترجمة ناجزة لما كتبه المؤلف لسببين : السبب الأول أن من يكتب يتجاوز بالضرورة أفكاره السابقة على الكتابة لأنه يتداعى مع لحظة الإبداع ويفارق بهذا القدر أو ذاك ماكان قد عقد العزم على كتابته ، والسبب الثاني أن المتلقي ليس واحداً بل متعدد، وأن هذه التعددية في التلقي تومىء بتعددية أشمل تتعلق بزمن التلقي ومستوى المتلقي وثقافته وحالاته النفسية ، يضاف إلى كل ذلك أن التواشج البيوكيميائي بين المؤلف والكتابة يتصل بكامل البيئة الحاضنة لزمن الكتابة من بياض الصفحة وحتى نور الغرفة ومؤثراتها البصرية والصوتية. [email protected]