تبدأ رواية «السُّمار الثلاثة» للكاتب سعيد عولقي ، منطلقة من تحديد المكان ، النادي الثقافي ، تحدد الموقع والوظيفة. يخالف الكاتب كثيراً من أشكال السرد ، فهو لايهتم بتقديم الشخصيات التي ستتقاسم مواقع البطولة في الرواية ، كما لايهتم بتحديد الزمان. والواقع أن وصف المكان يمكن أن يوحي منذ البدء بوصف مقبرة ، أو آثار معركة طاحنة خلفت في الأرض ماخلفت. هكذا يفتتح الكاتب روايته ، مشيراً إلى زمنٍ ماضٍ مفتوح ، لايتحدد إلا بوصف الوقائع التي يجري ربطها بالمكان «عندما كان النادي الثقافي في المحاذي لطريق الملكة أروى بعدن في ذروة عزه وتألقه.. شهدت أيامه ولياليه أجمل منتديات المدينة العتيقة القابعة في صبر وسط سلسلةٍ دائرية متصلةٍ من الجبال العالية الجرداء ..» لا أدري إن كان موقع النادي هو الذي يعطي هذا الربط التأريخي أم أن الكاتب تعمد الإشارة إلى التأريخ في تحديد مضاعف للمكان والزمان. نادٍ ثقافي في شارعٍ عريق يحمل اسم ملكةٍ شهيرةٍ من ملكات اليمن «الملكة أروى» ، في مدينة عدن ، هذه المدينة المحاصرة بين البحر والجبل ، القابعة في صبر كما يقول الكاتب : أهو صبر على جغرافيا المكان ، أم أنه صبر على تقلبات الزمان؟ هذه التقلبات التي يشير إليها الكاتب في الجملة الأولى من النص. لقد كان النادي في ذروة تألقة.. صيغة الخطاب تشير إلى أن الزمن قد دار دورته ، وأن هذا المجد أصبح ذكرى يقتات عليها رواد النادي ، الذين ظلوا على عهدهم ، مخلصين لتقاليد النادي..بل ولتقاليد المدينة. وأشير هنا إلى هذا التداخل في تحديد المكان ، فالكاتب يربط النادي والمدينة في دلالة واحدة. وكثيراً مانجد حدثه عن النادي يخرج خلف السور القصير لذلك النادي ليشمل فضاء المدينة كله. هذا النادي تكثيف للحياة والسياسة والتأريخ ، فيه أقيمت أجمل الحفلات ، وإلى فنائه جاء رؤساء ووزراء وقضاة وجلادون ومحامون ، وشرطة لصوص ومتآمرون ، وجواسيس ، وخونة ، وأبرياء ، وقتلة .. كل هؤلاء بتركيباتهم العجيبة ومواقعهم المختلفة كانوا يلتقون في النادي الثقافي. ما الذي يجمعهم على هذا النحو ؟ أم أن الكاتب أراد أن يجمعهم في حيلةٍ من حيل السرد الروائي ؟ وبدلاً من أن يخب وراءهم في فضاءات مختلفة ، جمعهم على هذا النحو المثير داخل فضاء مغلق ، هو النادي الثقافي في نوعٍ من اختزال الفضاء وتكثيف الزمن. لقد كان اتجاهي لدراسة هذه الرواية على أساس البحث عن فضاء الرواية ، وتحديداً عن جدلية الخلو والإمتلاء ، فالمكان يشكل محور الرواية ، وعلى أساسه تدور الأحداث. هذا النادي الثقافي ثم سوره القصير الذي يجلس عليه السّمار الثلاثة طوال أمسياتهم التي امتدت لسنين طويلة ، حتى باتوا جزءاً من حجارة هذا السور أو تماثيل دالة عليه. ثم أخيراً هذا التوحد بين النادي والمدينة ، فالنادي يكبر ويتسع ليصبح رمزاً للمدينة ، ولا أقصد بالرمز هنا مجرد التعبير أو الإشارة ، بل أن حديث الكاتب عن النادي يصبح في كثيرٍ من الأحيان حديثاً عن المدينة. وهذا الحشد الهائل من الناس الذين يتوافدون على النادي ويتأون عنه ، هو جزء من حركة المدينة. لقد كثف الكاتب تاريخ المدينة ليصبح تاريخاً للنادي ، وجر جميع الأحداث التي توالت على المدينة ، بل على اليمن كلها ، لتصبح ضمن سور النادي القصير محاطة به ومحيطاً بها. لم يلهث الكاتب وراء الأحداث في شوارع عدن ، لم يفتش عن الشخصيات في الأزقة والحواري ، لم يحاول حتى الإطلال من شرفة جبل شمسان إلى مايدور خارج المدينة ، كأنه اكتفى بأن التأريخ محاصر بين البحر والجبل ، وأن هذه المساحة البسيطة من الأرض يمكن أن تغني عن التيه في صحاري اليمن وجبالها ، بحثاً عن التاريخ. عدن هي مسرح الأحداث ، والنادي الثقافي هو صورة للمدينة ، مايحدث فيه هو انعكاس لما يحدث في المدينة كلها ، والسُّمار الثلاثة ليسوا مجرد شهود ، ولكنهم مشاركون في الأحداث. ربما كانوا مشاركين سلبيين ، ولكن ، حتى هذه.. لم تشفع لهم ، ووجدوا أنفسهم ذات ليلة جزءاً من الصراع ولكن لنتوقف قليلاً عند هذا الحد من التقديم عن بنية المكان. نتساءل هل أفضنا في تحديد الرواية من خارجها؟ هل كانت إضاءات الخارج طاغية على فعل قراءة النص من داخلة ونتساءل مرة أخرى؟ هل يقدم الكاتب رواية تاريخية طالما أن موضوع التأريخ مسيطر. الواقع أن النص الروائي وحدة بنائية وعضوية ، تتداخل علاقاته الداخلية والخارجية ، لكنه مع ذلك كيان مستقل ومتفرد ، إنه ليس نسخة عن الواقع ، وإن كان هذا الواقع يشكل مادته وعجينته الأساسية التي يقوم عليها الفعل الروائي. وعليه لأبد من فض أسرار الرواية من داخلها ، لأبد أن يكتشف الخارج عبر اكتشافنا للداخل. بمعنى آخر ، أن عمل الناقد لايقتصر على التفتيش عن المطابقة والمعقولية والصدق ، بل يبحث عن ماهو روائي في الرواية ، ليس التأريخ هدفنا ، كما أنه لم يكن هدف الكاتب بطبيعة الحال ، الذي لم يقدم لنا سرداً تاريخياً ، بل قدم شهادة حية عن حياة مدينة. هذا التحديد الذي نؤكد عليه هنا للمساحة الروائية لايعني غلقاً لعالم النص على العكس ، ليست الرواية عالماً مغلقاً ، مصمتاً ومسدوداً ، بل هي عالم مفتوح لها علاقاتها المرجعية التي تفتح منافذ للضوء على النص. وقد حاول الكاتب أن يصلنا بهذه المرجعية عبر إشاراته المختلفة إلى تحديد اسماء الأماكن وزمن الوقائع ، ليخلق ايهاماً متعمداً بواقع روايته وصدقها حتى اسماء الشخصيات واسماء الشهود ، واسماء العابرين التي وردت كانت جزاءً من هذه العملية حيث قام الكاتب بمزج الحقيقة التأريخية بالحقيقة الروائية ، حتى لم يعد بالإمكان الفصل بين ماهو روائي وماهو تاريخي وواقعي. يكسر الكاتب وصفه للمكان ، يتوقف قليلاً ليبث خبراً جاء على هيئة جملة اعتراضية ضمن السياق ، يبدأ حدث الرواية ، أو يبدأ الحدث المكون للرواية.. لقد ألقت الشرطة القبض على السمار الثلاثة ، الشخصيات الرئيسية الثلاثة في الرواية ، ومايلبث أن يعود ثانية لوصف النادي ، والواقع أن الكاتب يعتمد هذا الأسلوب المتكسر طوال الرواية.. ربما ليشدنا إلى آلية النص ، أو ليشير بطريقة فنية إلى التكسر التأريخي الذي تعيشه المدينة ، الحكم متروك لقارئ الرواية وللكيفية التي تتم بها القراءة. إلا أن هذا الحدث الذي سيشكل لاحقاً الهيكل الذي سيبنى عليه نص الرواية ، لايأخذ من الكاتب سوى ثلاثة أسطر داخل عملية السرد ، فهو يعود ثانية إلى الحديث عن النادي وعن رواده وعن أعضائه الأساسيين. لايحاول الكاتب الاستمرار في تنمية الحدث ، فتتحول الرواية إلى مايشبه التحقيق البوليسي فالواقعة ليست هدفاً داخل بنية الرواية ، ولكنها جزء مكمل. إنها محاولة لاختراق السُّمار الثلاثة في ليل سمرهم ، كسر لثرثرتهم التي لا تنتهي يتحدث الكاتب عن أعضاء النادي ، عن الذين رحلوا والذين بقوا. وكأن الخطاب الروائي لن يتأسس بفعل الحضور ولكن بفعل الغياب أيضاً. هذا ماتتكشف عنه أحداث الرواية ، فحادثة القتل التي حدثت اليوم لها جذورها في الأمس. وهذا مايفسر تذكر الذين رحلوا من أعضاء النادي ، والذين كانوا مشاركين في بناء النادي وترتيب أركانه وزواياه. أين ذهب رواد النادي ولماذا تفرق شملهم ؟ أهي عقدة اليمانيين منذ القدم ، ما أن يجتمعوا حتى يتفرقوا في بقاع الأرض.. أم أنها صعوبة الحياة وقسوة البيئة اليمنية التي تجعل الاستمرار في البقاء ضرباً من المحال. لاعجب فالبيئة اليمنية طاردة على نحو مايقول الدكتور ابوبكر السقاف ، وعلى نحو ماتؤكد وقائع الجغرافيا والتأريخ. تفرق رواد النادي ، بعضهم مات ورحل الآخرون ، ومنهم من دخل السجن ، أحدهم قتل والآخر أصبح رئيساً لمؤسسة حكومية ، أعدم واحد منهم بتهمة التجسس وعين آخر سفيراً في دولةٍ خليجية ، اغتيل أحدهم في الطريق العام وقتل آخر. هذه بانوراما لأعضاء النادي ، بل انها مقطع عرضي لأهالي مدينة عدن ، صورة النادي جزء من صورة أكثر شمولاً. بعد هذا العرض يشير الكاتب إلى تحول النادي إلى مكان مهجور .. يتساءل الكاتب باحثاً عن السبب.. ما الذي دفع بهذه الجموع إلى التنافر بعد أن كانت تجد مكاناً يشكل التحامها وتجاذبها. وقائع هذه الرواية يمكن أن تجيب عن هذا السؤال .. وهنا يكف الروائي عن استطراده يقبض على السمار الثلاثة وربما لم يكن البوليس سوى استدعاء ذهني من الكاتب الذي أراد أن يكتشف سر بقائهم ، ولما كان من العسير أن نعتقل إنساناً لأنه بقي مخلصاً لعاداته السابقة وظل يتردد على النادي بينما هجره الآخرون كان لابد من اللجوء إلى تلك الحيلة البوليسية.. إلى حادثة القتل والتحقيق فيها.. وسنرى لاحقاً أن هذه الحادثة التي تشكل محور الرواية لاتحتل حيزاً كثيراً في بنائها ، إنها بداية لحديث آخر ، سؤال لاجابات أخرى متعددة ليست واقعة القتل إلا واحدة من بينها. ولعل في هذه العلاقة تتشكل علاقة الرواية بالتاريخ.. نحو تلك الحادثة يتجمع التأريخ ويتبنى ، لكن الرواية ليست مكرسة للتأريخ فحسب ، إنها تبحث عن فضاءات أخرى وتجنح نحو تعبيرات متعددة. مكر التأريخ وتقطع السرد في اللحظة التي كسر فيها الكاتب استمرار البحث عن أسباب هجر ، الناس للنادي ، وأشار محدداً زمن إلقاء القبض على السمار الثلاثة وهم : أحمد القاضي وأنور خان ومهدي عوض باسنبل ، في هذه اللحظة تتجه الرواية نحو جريمة قتل حدثت قبل عشر سنين ، لقد قتل بدر الهاشمي على يد عمر عبدالسلام ، الذي يقال أنه قاتل ، محترف قتل بدر الهاشمي لأنه كان أعزل وقاتله مدجج بالسلاح.. هكذا يبرز الراوي حادثة القتل لكنه قبل ذلك يشير في معرض وصفه لبدر الهاشمي إلى أنه يحمل صفاتٍ يصعب تعايشها مع هذا الزمان الصعب ، فبدر الهاشمي كان غلطةً في الزمان والمكان اللذين انقلبت فيهما الموازين ، فصار الأسد ينحني راكعاً للكلب ، والذئب يرعي قطيع الحملان ، واصائل الإبل تربط خلف ذيول الحمير.. هل نحن أمام مشهد حي لمكر التأريخ ، حيث النتائج تخالف مقدماتها أو تمكر بها وبدلاً من أن يسود الخير والحق يصبح وجودهما غلطةً في الزمان والمكان ، نعم وهذا الأمر يتأكد حين يطلق سراح القاتل ويقال أن العدالة أخذت مجراها يصفق مهدي باسنبل باب غرفة أخيه المحامي ، بعد أن تأكد منه من صحة إطلاق سراح قاتل صديقهم ، لتسقط لافتة كانت معلقة على جدار المكتب ، وهي تحمل عبارة ذات دلالة «عندما يتعطل القانون يبدأ الطغيان». هل تكفي هذه الإشارة للدخول في تاريخ متكامل من القيم المعكوسة والانكسارات والقهر ؟ هل الطغيان نتيجة لتعطل القوانين وحدها؟ أم أنه أكبر من ذلك؟ إنه بدون شك أكبر من ذلك ، ولذلك وقف باسنبل في باب عدن وصرخ بأعلى صوته: «يا أهل اليمن.. إن دم الهاشمي بدر في أعناقكم جميعاً.. فإن ذهب هدراً فإنكم لن تنعموا بالأمان بعد اليوم ابداً» كيف تتحول جريمة قتل فردية إلى قضية عامة؟ لاحظوا النداء إنه موجه إلى أهل اليمن جميعاً .. أهو المدلول القرآني الذي يجعل جريمة قتل إنسان واحد جريمة قتل للناس جميعاً.. أم أنها الأبعاد التأريخية للجريمة وإلى مضاعفات هذه الجريمة حين يطلق سراح القاتل ، مقتل بدر الهاشمي كان إشارةٍ إلى زمن معين ، زمنٍ تسيد فيه القتلة وكان لا بد فيه من قتل جميع الأبرياء. «بدر الهاشمي كان مؤهلاً للقتل لأنه أعزل ، وقاتله مدجج بالسلاح». الإنسان ذئب على أخيه الإنسان.. نعم لقد انفرط العقد الاجتماعي الذي يضبط وينظم معيشة الناس داخل هذه الأرض ، لذا كان لابد أن يصبح القتل قانوناً للحياة ، أن يسود البطش والتنكيل ، وأن تدخل البلاد دوامة حرب أهلية صبيحة الثالث عشر من يناير.. أن تؤدي الانتفاضات والأيام السبع المجيدة إلى نتائج غير تلك التي وضعت من أجلها.. أهو مكر التاريخ مرة ثانية ، أم أنها الأحداث تتسارع فتفلت من أيدي المخططين لها وتتداخل أهداف الثورة المضادة ويلتقي أقصى اليمين مع أقصى اليسار في نهاية المسار. وفي فترة الغليان الثوري بعيد ثورة 26 سبتمبر عمل أحمد القاضي مراسلاً صحفياً .. وعاصر الأحداث العاصفة التي رافقت اسقاط النظام الملكي وإقامة الجمهورية.. وخطوة خطوة ويوماً بعد يوم شهد التقدم والتقهقر والصراعات الصغيرة والكبيرة . وعاش وقائع الحرب الأهلية وماتفرع عنها من معارك متفرقة .. وفي غفلةٍ من الجميع كان التأريخ يطبع بصماته على الأرض والناس «الأشياء» هذه الغفلة هي المكر الذي تحدث عنه هيغل في مفهومه لمكر التأريخ. وفي ظل هذا المفهوم تسقط الجمهورية بيد الجمهوريين وتنكسر الثورة بيد الثوار ، ويعود السلال بعد سنوات المنفى ليقبع في داره ، ويشذب لحيته المنتظمة ، ويتأمل مسار الثورة والجمهورية بعد هذه السنوات. ولمسألة التأريخ أيضاً ، يتوجه مهدي باسنبل بعد عامين من أحداث يناير ، إلى الشحر مسقط رأسه. وهناك أمام بوابتها التأريخية يقف مردداً أسئلة كثيرة محيرة «هل نحن حقاً نتيجة أفكار وأفعال حدثت في الماضي؟ هل يمكنني القول أن هذا هو المقصود من الحياة.. وأن تلك هي الطريقة الصحيحة للعيش؟ هل نحن جديرون بوراثة ماحدث في الأمس ؟.. أم أن ماحدث قد أورثنا أوزاراً مجحفة وأوضاعاً غير منصفة وتفتقر إلى العدل؟ هل كان استشهاد الأجداد والآباء وتضحياتهم وكفاحهم خليقاً بالأحوال التي أوصلتنا إليها أوضاعنا الراهنة؟ تساؤل فلسفي شبيه بسؤال هيغل «ما الغرض النهائي الذي نقدم من أجله كل هذه التضحيات؟ والذي قاد بدوره إلى مفهوم هيغل لروح التأريخ التي تتحقق رغماً عنا ، وهو ما كشف عنه على نحو أكثر ايحاءً في حديثه عن مكر التأريخ ، حيث يعتقد الناس أنهم يصنعون التأريخ وأن الأحداث تسير وفقاً لأهوائهم لكنهم يكتشفون بعد ذلك أن الوقائع سارت في اتجاهٍ آخر ، وأنها قد جرفت في طريقها إلى غاياتها الأفراد الذين كانوا يعتقدون أنهم يشاركون في صنعها. ولكن هل تحاول الرواية أن تقدم لنا الدليل على هذه الحقيقة الهيغلية؟.. الواقع كلا.. فالروائي بعيد عن فكر هيغل.. أو أن أفكار هيغل لاتدخل في سياق همومه ،ولكن يبدو أنه وصل إلى هذه النتيجة مصادفة ، أو أن شعوره بالإحباط نتيجة لتصادم المصائر التأريخية قد قاده إلى تلك النتيجة. من يدري؟ فالعيش في خضم الأحداث ومحاولة تأملها بعينٍ صاحية يمكن أن يحول المرء إلى فيلسوف للتأريخ. لكن الروائي لايستطرد في تأملاته الفلسفية ، بل يكسر وتيرتها في نوعٍ من السخرية المفعمة بالألم،وذلك حين يصرخ مهدي باسنبل،بعد أن عجز عن الإجابة «ماالذي تصورت أنني يمكن أن أجده في الشحر؟ثم ماهي الشحر ذاتها بعد كل شيء؟حقاً أنها كما قال مراسل النيوزيك ليست أكثر من مدينة ساحلية صغيرة مليئةٍ بالأسماك والحضارم». ولئن ارتبط أحمد القاضي ومهدي باسنبل من خلال عملهما الأول كصحفي وشاهد للأحداث ؛والثاني ككاتب مسرحي يحاول أن يكتشف نبض الزمن وسط ركام الأحداث ويبحث عن رؤية للتاريخ تقترب به من العقل والتعقل ،فإن الشخصية الثالثة؛أنور خان،تبتعد قليلاً عن التاريخ وإن كانت لاتحيد عنه؛فهذا الفنان الموسيقي المغرم بموتزارت،موتسارت فقط دون سواه،إنه لم يستمتع ببتهوفن أو أنه لم يحاول ذلك؛ هذا الفنان هو الآخر يبحث عن الطفولة؛عن البراءة التي يفتقدها عصره؛ لذلك تجري استعادة موتسارت من خلال الفيلم المأخوذ من مسرحية بيتر شافر «أماريوس». ليس موتسارت وحده مايثير أنور خان،بل البراءة والطفولة اللتان تعبر عنهما موسيقاه مأساة التعامي عن العبقرية ومحاولات دفنها،عدم التصالح الجاد بين الإنسان والمجتمع. هذه هي مأساة موتسارت، وكان نور خان يشير بذلك أو يستعيده متمثلاً تجربة موتسارت. لنعد ثانية نتأمل انبناء الشخصيات الثلاث وتداخلها المتلازم مع وقائع للتاريح. إن الكاتب يحكم الربط بطريقة مقصودة كأنه يريد أن يدلنا على مفتاح الرواية،إن المشكلة في التاريخ،في هذا الزمن الذي اجتمع سمارنا الثلاثة في ظله، أحمد القاضي ولد عام 1942م في قرية من قرى الحجرية،في سن الثامنة ذهب إلى عدن بعد أن هاجر أبوه إلى الحبشة، ما إن بلغ سن الشباب حتى ذهب إلى القاهرة وروما ليكمل تعليمه،وحين عاد إلى أرض الوطن كانت البلاد كلها تتهيأ للثورة. أما مهدي باسنبل فقد انتقل أبوه من الشحر إلى مدينة عدن بينما كانت قوات هتلر تبدأ زحفها عى بولندا...وكانت ولادته يوم وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها،وفي يوم زواجه كان قحطان الشعبي يلقي خطاباً سياسياً يعلن فيه استقلال الجزء الجنوبي من اليمن وينصب نفسه رئيساً للجمهورية،حينها شعر بأن دوام زواجه مرتبط بدوام رئاسة قحطان الشعبي، لنتأمل هذا الإحساس بالزمن والالتحام به؛ليس الأمر مجرد خاطرة عابرة، لقد كان باسنبل يقول في قرارة نفسه وهو يستمع إلى خطاب قحطان:«لقد أخطأ التوقيت» إن الكاتب لايقول لنا لماذا؟ كما أن باسنبل نفسه لم يستطرد ليشرح لنا ذلك الشعور المفاجئ. ولكن الأمر يتعلق بالزمن،إن هنالك مساراً صحيحاً للزمن وهناك مسار خاطئ..هكذا يقول باسنبل..ثمة يومان للسعد ويوم للنحس؛هكذا تقول الحكاية الشعبية العربية الإنسان يشكو من غدر الزمن ويخاف من تحولاته وتقلباته. والخوف من الزمن يصاحب ولادة هذه الجمهورية الفتية،إن الربط الذي ينشأ بين استمرار الرئيس في حكمه واستمرار الزواج يشير إلى تلازم هام يكاد يصبح قانوناً في حياة الناس في عدن. فأحوال الحكم سوف تدخل كل بيت وتغير أوضاع الناس وأحوالهم..وهذا ماسنراه في مواقف متكررة خلال الرواية. وبالفعل لم يدم حكم قحطان كما لم يدم زواج باسنبل الأول. الزواج الأول كان تاريخياً،مرتبطاً بحدثٍ وانتهى بعد مدة قصيرة،أما زواجه الثاني فينتهي إلى الزمان البايولوجي والجيولوجي كما تقول الرواية «عندما تزوجت زينب في ذلك الزمن الغابر..كانت الأرض قد انفصلت عن الشمس وبردت...وتكونت فوقها المحيطات؛والقارات ودبت على سطحها المخلوقات كان ذلك بعد انقراض الديناصور والزواحف العملاقة على ماأذكر..» هذه الإشارة يمكن أن تدلنا على أن الزواج الثاني كان مجرد فعلٍ بايولوجي ؛ليس اختياراً ولكنه ضرورة. ومن هنا انفصاله عن التاريخ ،الزواج الأول ارتبط بحدث تاريخي غير مجرى حياة الناس؛كان زواجاً اختيارياً وليس فعلاً بايولوجياً تمليه ضرورة الجنس البشري، وربما كان هذا سبب دوامه؛إلى درجة أن السياسة تتدخل من أجل دوامه. فقانون الأسرة الذي صدر أضاف قيد إلى قيود الحياة البايولوجية. لم يعد باسنبل مخبراً بل هو مجبر؛أو هذه على الأقل هي الشروط التي أملاها القاضي عليه. أنور خان هو الآخر ولد في حارة حسين بكريتر؛أيام مجد تلك الحارة وعزها.كان أبوه يعمل في البنك البريطاني ...وكانت الدنيا لاتزال بخيرها كما يقول أبوه. سافر إلى مصر لدراسة التجارة كما أراد أبوه؛لكنه اختار الموسيقى وعاد إلى عدن والبلاد على أبواب الاستقلال؛ ومع الاستقلال كان والده بدون عمل؛فقد رحل البنك البريطاني مع جنود الاحتلال؛ ودخلت السياسة إلى منزلهم؛حيث تزوجت إحدى شقيقاته من زعيم حزب سياسي؛وأذيع أحد ألحانه الأكثر طرباً في نفس اليوم الذي أعلنت فيه قرارات التأميم الشامل لكل النشاطات التجارية الرئيسية في البلاد. إلا أن التاريخ لايظهر في هذه اللازمة التي تتبدى بين الأحداث الشخصية ووقائع التاريخ فحسب؛ ولكن هنالك أيضاً شعور بتاريخ دائري وزمانٍ منغلق؛ تجاذب الحاضر والماضي في سياق السرد يشير إلى تجاذب الحاضر والماضي في سياق السرد يشير إلى تجاذب آخر أكثر عمقاً،فالموتى يمسكون بالأحياء؛والحاضر مشدود إلى الماضي، ألا تعساً لقومٍ يحكمهم أمواتهم وهم أحياء» قالت جليلة أرملة كليب وأخت جساس...وتردد صوتها عبر أجهزة التلفزيون في كل بيتٍ في المدينة..وفي كل أنحاء البلاد» وفي مكان آخر من الرواية يقول أحمد القاضي «يبدو لي اليوم أننا مازلنا نواجه نفس الإمتحان القديم؛ولكن بإخراج جديد!» ،أما أنور فإنه ينظر من فتحةٍ من نافذةٍ في غرفة التحقيق «إلى معصرة زيت السمسم القابعة أسفل التل...وإلى الجمل المعصوب العينين الذي يدور فيها...ترى متى بدأ ذلك الجمل أول خطواته..ومتى يتوقف في الدوران؟» بدا له ذلك المنظر شديد اليمنية..بل أكثر خصوصية...كان المنظر عدنياً خالصاً..أكثر عدنية من كل شيء.. وكريترياً حتى النخاع..!وهذا التاريخ الذي يتكرر بطريقة مأساوية هو الذي يقودهم إلى الموقف الذي يشكل الحدث المحوري في الرواية. فقد ألقت الشرطة القبض عليهم بتهمةٍ يجهلها الجميع؛بما في ذلك الضابط الذي نفذ عملية القبض؛لكنهم يفاجأون في أثناء التحقيق أنهم مطلوبون للشهادة في جريمة قتل.«جريمة قتل جديدة لنفس القاتل القديم». لقد نفذ القاتل الأول:عمر عبدالسلام جريمة قتل أخرى؛القتيل الأول كان بدر الهاشمي زميلهم في النادي،أما القتيل الثاني فهو شكري المرشدي؛والمطلوب منهم أن يكونوا شهوداً على براءته؛ فهو كان معهم على نفس الدرب حيث يسمرون كل ليلة. اقتحام العقبة:هل تغير الزمن؟ في النصف الثاني من الرواية؛تتغير طريقة السرد؛وينتهي ذلك التداخل بين الماضي والحاضر؛ بين وصف المكان والشخوص وبين وقائع الاعتقال والحادثة ؛وتبدأ الرواية بعد ذلك حضوراً تاماً؛يتجلى من خلال سيادة الحوار أثناء التحقيق..نكتشف أن هنالك جريمة قتل وأن المطلوب تقديم شهادة ببراءة المتهم. والسمار الثلاثة هم المطلوبون للشهادة..هكذا شاء الحظ أو هكذا أراد القاتل؛فإنه يريد أن يزيد في تعذيبهم. فلاشيء يدعوه لذكرهم..إن علاقتهم به انقطعت منذ سنوات.. فأحمد القاضي لم ير القاتل منذ ثلاثة عشرة سنة أما مهدي باسنبل فلم يقابله منذ أكثر من عشر سنين؛وكذلك الشاهد الثالث:أنور خان. هكذا جرت الأمور في المحكمة..تنبه السمار الثلاثة إلى أهمية شهادتهم فدققوا في الزمن. إن السؤال كله متعلق بالزمن؛ لابد إذن من فحص الذاكرة والحفر في خلاياها خوفاً من النسيان. ولكن هنالك زمن آخر؛زمن القتل؛الليلة التي تم القتل فيها؛وكان المفترض بالسمار الثلاثة أن يبدلوا ذاكرتهم وفقاً للأمر الذي صدر إليهم من المحقق جبران. لقد اختارهم عبدالسلام ليكونوا دليل براءته؛ولذا كان لابد لهم من الاستجابة. هكذا عرفوا خلال التحقيق..حينها اكتشفوا أن الزمن لم يتغير وأن زماناً قادماً يلعب فيه الذئب مع قطيع الغنم لن يأتي أبداً. كانت مجالس سمرهم تفكيراً دائماً في هذا المأزق الذي حشروا فيه دون أية إرادة منهم. القاتل يختار بنفسه ضحيته وشهود براءته،وعليهم أن ينفذوا،هكذا أملى عليهم المحقق جبران،الذي أمر باعتقالهم ليلاً من الدرب وقادهم إلى شرطة كريتر كي يكتشفوا من منظر الجمل في المعصرة أن الزمن يدور لكن دورته لاتحمل أي تقدم؛ هذا هو المنظر اليمني المحض على حد تعبير الكاتب ساقه على لسان أنور خان...ولكن الزمن تغير هذا ماقاله لهم الرجل الممتلئ ذو البدلة الزرقاء وهم داخل قاعة المحكمة، منها إياهم على ضرورة قول الحق؛ولكن من ذلك الرجل؟تذكروا أنهم رأوه سابقاً في شاشات التليفزيون؛في الصحف؛ وتذكر أحدهم أنه رآه في المنام. اختلط الحلم بالواقع في لحظة حرجة!!هل يستسلمون لهذا الأمل الذي أضاء في أذهانهم كالبرق؛واختفى ليتركهم نهباً للدهشة؛أم يمتثلون للواقع الذي يمثله القاتل بما يملك من أعوان،والمحقق بماله من سلطان..إن السمار الثلاثة الذين ظلوا يراقبون الأحداث من دربهم القابع أسفل عقبة عدن تذكروا أن الشمس تشرق كل يوم،وأنهم هم الذين يزرعون الفجر في سماء عدن بسهرهم الدائم إنما كانوا ينتظرون التغيير وأن الزمن سوف يتغير حتماً. لذا استجابوا للأمل؛على الرغم من ومضته الخاطفة؛ وضربوا عرض الحائط بخوفهم وقلقهم. لم يكن هذا الاختيار مجانياً ولاعملاً انتحارياً؛ولكنهم اختاروا بوعيٍ وبحرية. وبالفعل كانت بشائر التغيير تحدث في أحشاء المجتمع...«لم يعد هناك شك في أن زمن الانتظار يبلغ الآن نهايته،وأن الصبر قد أثمر؛ وأن المستحيل يحدث على أرض الواقع وتحت سمائه. وعند احتمالات هذا التغيير تنتهي الرواية؛وهي نهاية مفتوحة تسأل عن المستقبل أكثر مما تتنبأ أو تؤشر؛ كأن الروائي لايريد لهذا الإيقاع المتكسر في عملية السرد أن يتخذ مساراً خطياً. إنه يضعنا على أعتاب المستقبل؛كأن السمر قدر دائم وأننا لانثق بطلوع الفجر إلاإذا انتظرناه وسمرنا الليل من أجله. إن رواية السمار الثلاثة؛ببنائها الدقيق وحجمها الصغير تمتد على مساحة زمنية هامة من تاريخنا؛وهي وإن كانت اختزلت المكان؛فإنما عملت ذلك لتستطيع تكثيف الوقائع والأحداث والرؤية. والرواية تتحدث عن التاريخ وإن كانت لاتؤرخ.فالتاريخ والمجتمع هما المادة الأساسية التي استطاعت الرواية من عجينتهما أن تشكل لنا شخصيات وأحداثاً ووقائع. ونحن نلحظ من خلال عملية السرد أن الكاتب يتذكر؛فالرواية نقيض النسيان أو أنها وعيه الضدي. والكاتب يحرص على إحياء هذه الذاكرة بطريقةٍ فنيةٍ..إنه يجعل الشخصيات تتحدث ولا يتدخل الراوي في سياق النص،بالمقاطعة،أو الإضاءة أو التفسير؛فإنه يريد أن يترك الأحداث تروي نفسها وبواسطة الشخوص الذين شاركوا فيها حتى موقع الكاتب داخل النص لانراه إلا في موضعٍ واحد؛ حتى يتحول الحديث من لسان إحدى الشخصيات «مهدي باسنبل» إلى لسان الكاتب..تداخل الرواية على هذا النحو،أعطى للرواية أفقاً متعدداً ساعد على ذلك انكسار السرد لاسيما في القسم الأول من الرواية؛ الذي أعطى إيقاعاً متوازناً للإنتقال من تصوير المشهد إلى حكاية الخبر دون أية حلقة وسطية؛هذا الكسر السردي أثار شيئاً معدداً لدى الكاتب؛وهو التنازل عن الخبر لصالح المشهد؛أو عن الخطاب غير المباشر وهو مايعبر عن الاعتناء بالنص الروائي أكثر من الاعتناء بالموضوع الذي يروي؛وهنا نجح الكاتب في الإفلات من حيث ترتيب سرد الأحداث ونجح في تقديم الوقائع التاريخية بطريقة روائية. إن ترتيب سرد الأحداث في الرواية وأولوية ذكرها هو جزء أساسي من تشكيل الرواية تشكيلاً فنياً؛وهذا ما يميز الرواية عن الحكاية؛فالحكاية تقدم تسلسلاً مطلقاً لوقوع الأحداث؛ بينما تقدم الرواية تسلسلاً نصياً لسرد الأحداث. لقد قام المؤلف بكسرالخطة الزمنية للأحداث؛ وذلك عن طريق نسق من التقهقرات والإحالات إلى الماضي فهو يتقدم بشخصية معينة إلى نقطة معينة؛ ثم يعود إلى البداية؛ليقدم شخصية أخرى وهكذا ؛تم تطور جديد للشخصية الأولى فالثانية فالثالثة؛ وفي نفس الوقت يجري سرد الحدث الجديد،الذي سبب كل هذا الاسترجاع الإجباري للذاكرة ثابتاً كنقش أثري،يقوم الراوي بحفريات من أجل كشف أسراره. إن الراوي وطريقة السرد والحوار في اشكال لاستعادة تلك الذاكرة وترتيبها وإعادة موضعها في المكان،هو مكان غير مغلق ولكنه مفتوح وقابل للإتساع. وهذا ما تعبر عنه نهاية الرواية؛التي تضعنا أمام الاحتمالات،المختلفة للتغيير.و،لاأريد أن أقول هنا أن الرواية تنبأت بولادة حدثٍ عظيم في تاريخنا المعاصر؛واستطاعت أن تستشرف أفقه وملامحه وسط تلك الفوضى والتمزق اللذين يبرزان في الواقع وفي نص الرواية. وما من شك أن هنالك مقاربات متنوعة يمكن بواسطتها قراءة هذه الرواية التي حافظت على خيط رفيع يفصل بين الرواية والتاريخ، واخلصت في آن واحد لفنية الرواية وواقعيتها.وقد استفاد الكاتب سعيد عولقي من تقنية القصة القصيرة واختزلها التعبيري،واستطاع بذلك أن يكثف لنا تاريخاً مليئاً بالأحداث والمتغيرات في وقائع بسيطة ولكنها عميقة الدلالة والمعنى.