صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحدة في الرواية اليمنية
نشر في رأي يوم 10 - 06 - 2009

ثمة إشكالية لدى الباحثين غالباً ما تظهر عند تناول الروايات التاريخية بالدراسة, وتتمثل هذه الإشكالية بعلاقة الرواية التاريخية بالواقع المعاصر الذي يعيشه الكاتب. وبتعبير آخر ما الهدف من استلهام التاريخ عند كتابة رواية ما ؟ هل هو التعرف على شخصيات و أحداث التاريخ ؟ أم أن ثمة علاقة بين الحاضر والماضي الذي استلهمته الرواية ؟ .
والجواب على هذا السؤال يتوقف على مفهوم التاريخ عند المؤلف, فإن كان يعني « نقل الحقائق كما هي دون أن يغير فيها شيئاً, إذ هو يستعين بمنهج العلم وأسلوبه في تناول التراث الإنساني « ( ), فإن رواياته تغدو نسخاً مكررة لما في كتب التاريخ, وتكون وظيفة الروائي فيها أقرب إلى وظيفة المؤرخ منها إلى وظيفة الفنان المبدع. أما إذا كان مفهوم التاريخ عند المؤلف يعني « إحياء وبعث الفترة التي يتناولها « ( ) وهو المفهوم الحديث للتاريخ عند جورج لوكاش فإن « التاريخ حين يصبح مادة للرواية يصير بعثاً كاملاً للماضي, ويربط الماضي والحاضر في رؤية فنية شاملة فيها من الفن روعة الخيال, ومن التاريخ صدق الحقيقة «( ).
وعلى ضوء المفهومين السابقين للتاريخ سار الروائيون العرب في كتاباتهم التاريخية على اتجاهين: الاتجاه الأول, وهو الذي « انصرف جهده إلى تقديم التاريخ في سياق حكايات تكون أكثر تشويقاً للقارئ لمطالعتها « ( ). والمؤلف في هذا الاتجاه يعني بالدقة التاريخية « وللقارئ أن يحاسب الكاتب حساباً عسيراً إذا حاول أن يعبث بوقائع التاريخ أو أن يزيف المواضع الجغرافية أو يحور ملامح الشخصية التاريخية, التي غدت ملكاً للتاريخ « ( ). وتهدف روايات هذا الاتجاه إلى جانب التعليم تسلية القراء.
أما الاتجاه الثاني فيرى أن الروايات التاريخية « لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ أو أرقامه فإن طالب الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ « ( ), إذ لا بد من « إسقاط الحاضر على الماضي تحقيقاً لهدف قومي, وهذا مبرر استخدام التراث في الرواية « ( ). وقد ظهر هذا الاتجاه نتيجة الضغوط الاستعمارية على الوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى, وظهور التيارات القومية إثر سقوط الخلافة العثمانية ( ). ويهدف هذا الاتجاه إلى إزاحة اليأس عن الأمة العربية من إمكانية تغيير واقعها المتدهور, من خلال البحث في ماضيها عن الجوانب المشرقة في تاريخها. كما يحاول هذا الاتجاه أن يوحي لها من طرف خفي أن شخصيات التاريخ وأحداثه يمكن أن تتكرر.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن هناك فريقاً من الروائيين العرب, لم يكن لهم هدف من كتابة الرواية التاريخية سوى الهرب من الحاضر بمشكلاته كلها إلى الماضي, فقد علق الناقد الدكتورغالي شكري على الروائيين المصريين الذين هجروا الحاضر بعد ثورة يوليو في مصر, ليكتبوا عن الأحداث التي سبقتها بقوله: « .. فربما كان (التاريخ ) مشجباً عظيماً لكي نعلق عليه كافة ثيابنا, كما يقول الكسندر ديماس . ولكن الماضي عند هؤلاء لم يكن تفسيراً للحاضر, لم يكن أداة تعبيرية لقضية أكثر شمولاً من الماضي, وإنما كان الماضي مجرد (ملجأ) يحتمي به الأديب من مشكلات الحاضر وأزماته « ( ). لكن هذا الفريق من الروائيين لا يمثل اتجاهاً روائياً بقدر ما يمثل الخصوصية المحلية للرواية المصرية بعد ثورة يوليو.
والروائي اليمني في تعامله مع التاريخ لم يخرج عن الاتجاهين السابقين, ولعل رواية (مصارعة الموت ) للكاتب عبد الرحيم السيلاني خير مثال على الاتجاه الأول, فهي كما ذكر المؤلف على الغلاف « رواية تاريخية أخلاقية اجتماعية أدبية سياسية, تدور أحداثها في اليمن من سنة 1956م إلى سنة 1962م « (*). لكن القارئ لأحداث الرواية يدرك أن الكاتب « كان يتابع مجرى التاريخ بشكل دقيق, لا يعطي أية فرصة للفن لأن يتغلغل «( ).
أما الاتجاه الثاني فتمثله كل الروايات التاريخية التي لا تعني بسرد أحداث وشخصيات التاريخ بقدر ما تعني بتوجيه رسالة من الماضي إلى الحاضر, في رؤية فنية شاملة لا يطغى فيها التاريخ على الفن, ولا يُشوّه فيها التاريخ بحجة الإبداع الفني. ومن الروايات التي يمكن تصنيفها في هذا الاتجاه بعض روايات باكثير كالثائر الأحمر وسيرة شجاع, ورواية أنور محمد خالد ( رؤيا شمر يرعش), التي سيقف البحث عليها لبيان ما يشير إليه عنوان هذا البحث.
تحكي رواية (رؤيا شمر يرعش ) حياة الملك شمر يرعش, أحد ملوك اليمن في العهد الحميري, وقد قسم الكاتب حياته إلى فترتين, الأولى: تناول فيها حياته أثناء حكم أبيه الملك «ياسر ينعم» ملك سبأ وذو ريدان. ففي هذه الفترة شارك شمر يرعش أباه الحكم, فاستطاع أن يقترب كثيراً من هموم والآم الشعب, وأدرك المؤامرات الخارجية التي تحيكها الدول الكبرى لإخضاع اليمن تحت سيطرتها, والتي بدأت بتشجيع القبائل اليمنية المتاخمة لحدودها على التمرد, مستغلة الظروف الاقتصادية التي تعيشها تلك القبائل. إلا أن شمر يرعش أمام هذه الأوضاع المتدهورة لم يستطع أن يفعل شيئاً بسبب سلطة أبيه التي كانت تحد من سلطته في اتخاذ أي قرار يكمن وراءه تغيير أوضاع البلاد نحو الأحسن.
أما الفترة الثانية من حياة الملك شمر يرعش, فقد تولى الحكم فيها منفرداً, بعد وفاة أبيه، ولأنه قد وقف – في الفترة السابقة – على كثير مما تعانيه البلاد من أزمات ومؤامرات, فقد أدرك أنه لا يمكن إصلاح الأوضاع الداخلية, ومواجهة الأخطار الخارجية التي تهدد البلاد, إلا بتكوين حكومة مركزية للبلاد, وإشراك جميع القبائل اليمنية في إدارتها, والعمل على تحسين أوضاع الناس المعيشية, لاسيما أوضاع القبائل التي تعاني من شحة الموارد الاقتصادية في مناطقها. فسعى الملك شمر يرعش نحو توحيد أجزاء اليمن في مملكة واحدة, عرفت باسم ( مملكة سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات )، وأنشأ مجلس للشورى يضم مندوبين عن كل القبائل, فلا يقطع برأي دون الرجوع إلى هذا المجلس, كما سعى الملك إلى إصلاح السدود وقنوات الري, وتشجيع الناس على الزراعة, واستطاع تكوين جيش الأعراب من جميع القبائل, كان سنداً لجيش المملكة في حروبه التي خاضها من أجل تأمين طرق التجارة في الحدود الشمالية والغربية.
سار الكاتب أنور محمد خالد في روايته ( رؤيا شمر يرعش) على نهج القاص الشعبي في السيرة حين استند على التاريخين العلمي والشعبي في عرض أحداث وشخصيات الرواية. وإذا بدأنا الكلام عن لإطار التاريخي للرواية, فإننا نجد المؤلف قد اعتمد في روايته على عدد من نصوص المسند, التي نقشت في عهد الملك شمر يرعش, أو أثناء فترة قريبة منه, كما اعتمد على بعض المصادر التاريخية الحديثة, وقد أشار إليها في مقدمة الرواية (*).
ومن الشخصيات التي قدمها الكاتب في روايته, وكان لها وجود فعلي في التاريخ, شخصيتا (الملك ياسر ينعم) وابنه (شمر يرعش) اللذان كان لهما دور مشهود في مسيرة التاريخ اليمني القديم, وشخصيتا ملكي حضرموت في عهد الملك شمر يرعش, وهما (شرح إيل) و( رب شمس). كما أورد الكاتب شخصيات تاريخية أخرى ك(وهب أوام ) قائد جيش الأعراب, و(ريمان حزفر) عاقب صعدة, وأحد قواد جيش الملك ورسوله إلى ملك الساسان, و(عبد عم )أحد قواد الجيش، الذي كلفه الملك مع فرقته ببناء سور مأرب لغرض حماية المدينة من السيول, و(وافي أحبار) قائد الجبهة الغربية في جيش الملك, وغيرها من الشخصيات التاريخية التي كان لها دور في الأحداث التاريخية إبان الفترة التي حكم فيها الملك شمر يرعش.
تتطابق الكثير من أحداث الرواية مع أحداث التاريخ, ومن تلك الأحداث توحيد أجزاء اليمن تحت مملكة واحدة, صار ملكها يدعى ( ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات ), والقضاء على تمرد بعض القبائل, وتكوين جيش الأعراب, وإرسال الحملات العسكرية لغرض تأمين الحدود الشمالية والغريبة, التي كانت تتعرض لهجمات الساسان وأكسوم من حين إلى آخر.
ويتجلى الإطار الشعبي للرواية في استخدام المؤلف للجزئيات والعناصر الشعبية؛ التي كثيراً ما ترد في القصص الشعبي بوجه عام, وفي السيرة على وجه الخصوص. فالرؤيا في الرواية تلعب الدور نفسه الذي تلعبه في السيرة, إذ أنها كثيراً ما ترد وتكون عنصراً ممهداً ومحركاً للأحداث. فقد رأى الملك شمر يرعش في المنام أنه كان « واقفاً على تل مرتفع يطل على سهل واسع تناثرت فيه الأشجار. كانت أسراب من الطيور تسقسق على أغصانها ثم تتجمع وتتماوج وتطير نحو الآفاق لكنها تعود بعد قليل تطاردها الجوارح, تهاجم البعض منها وتنال منها ثم ترتد إلى حيث أتت.. على تل عال مجاور, ظهر فجأة شيخ يرتدي عباءة بيضاء, ويتكئ على عصاه, ما إن رفع عصاه حتى حدث ما لم يكن في الحسبان. تراجعت الجوارح. قامت الطيور بمطاردتها. تابعتها حتى الأفق الذي غيّبهما معاً « ( ).
وتتحقق الرؤيا - التي جعلها الكاتب عنواناً لروايته – بعد سيطرة جيش الملك شمر يرعش على حصن التيس, وحصوله على تعهد من ملك الساسان بعدم القيام بحملات المطاردة للقبائل اليمنية المتاخمة لحدود بلاده. إذ أن أسراب الطيور التي رآها الملك في حلمه, إنما هي رمز للقبائل اليمنية, التي تهاجر إلى ضفاف الأنهار في الشمال للحصول على مقومات الحياة, فتقوم قوى تلك البلاد بمطاردتها, والاشتباك معها وإعادتها إلى بلادها ( ).
ويكشف الراوي من خلال شخصية العرّافة عن بعض أحداث المستقبل؛ إذ تقوم العرافة بضرب الودع مستخدمة أسلوب السجع – كما هي عادة الكهان والعرافين – في الإفصاح عن نبوءتها التي قضت بقرب نهاية مالك الكندي أمام سورعال, وأن الملوك تنحدر من نسله, كما تنبأت لزيد الحلحلي بطول العمر رغم تعرضه للمخاطر والنوائب الجسيمة, أما وهب أوام فقد خاطبته المرأة قائلةً: « تتولى حكم ثلث البلاد وتبلغ في حكمها المراد وتحظى بحب العباد « ( ).
وتتحقق نبوءة العرافة ذلك أن « ما يكشفه الرمل حقيقة لا يرقى إليها الشك «( )، في تصور الإنسان الشعبي، فمالك الكندي « قتل أمام الجدار العالي الذي وقف أمامه حصن التيس « ( )، وتزوجت ابنته ( نعمة) من( ياسر ينعم) ابن الملك شمر يرعش فانحدر من نسله الملوك . وعاش زيد الحلحلي عمراً طويلاً رغم تعرضه مرات عديدة لسهام جذيمة, التي تلاحقه في كل مكان يذهب إليه, ذلك أن الأخير كان ينشد ثأر أخيه كعب، الذي قتله زيد في حادثة الهجوم على القافلة. أما وهب أوام، فقد عينه الملك شمر يرعش « حاكماً على حضرموت وكندة ومذحج وباهل وحدا ورضوم وأظلم وأمير « ( ), وهذه الأراضي جميعها شكلت ثلث البلاد التي حكمها الملك شمر يرعش.
وضرب الرمل لمعرفة أحداث المستقبل كثيراً ما يرد في السير الشعبية، ففي سيرة المهلهل يستخدم التبع اليماني رمّالاً شاطراً لمعرفة ما في صناديق العروس، وحين استخدم بنو قيس الحيلة في تضليل الرّمال أحضر الملك التبع عجوزاً تدعى (حجلان)، فضربت الرمل للتأكد من صحة ما يقوله الرّمال، ف» تبين لها أن الصناديق طبقتين في السفلى رجال وفي العليا قماش فافتكرت ساعة من الزمان وضربت ثاني رمل فرأت بني قيس يقتلون التبع لا محال « ( ). وفي سيرة الملك سيف بن ذي يزن, أن الملك سيفاً حين افتقد القلنسوة التي كانت تخفيه عن أنظار الناس توجه إلى الحكيمة عاقلة قائلاً: « اضربي تخت رمل وانظري لي مكانها حتى اجتهد في طلبها « ( ). ونلقى الأمر نفسه في سيرة بني هلال, التي يتكرر فيها هذا العمل( ).
فكل التنبؤات سواء عن طريق الحلم أو عن طريق عرّاف « تتحقق بالضرورة وفق منطق السير الشعبية، ومنطق الإنسان الشعبي«(). وغالباً ما تتكئ الأحداث في القصص الشعبي عموماً, وفي السيرة على وجه الخصوص على هذه التنبؤات, إذ أن جُلّ أحداث السيرة تسعى نحو تحقيق هذه التنبؤات، وعند أن تتحقق تنتهي القصة، فكأنها لازمة شعبية مهمة في بناء الحدث في هذا النوع من القصص الشعبي.
كما أن طريقة بناء الأحداث في الرواية, تمت « بنفس الطريقة القدرية التلقائية التي تتم بها ( الحدوتة ) أو الحكاية الشعبية «( ), فقد وردت الصدفة غير المعقولة في الرواية, التي بواسطتها تعرف قيس بن جذيمة على عزة بنت زيد الحلحلي « وتوثقت صلاتهما حتى تواعدا بأن لا يرضى أحدهما عن الآخر بديلاً « ( ), ثم فاتحا أهلهما برغبتهما بالاقتران ف» كان صدمة مفاجئة للوالدين . لم يدر بخلد أي منهما أن يتعارف ابناهما يوماً فضلاً عن أن يبلغ بهما الأمر إلى التفكير في الزواج «( ).
وترد في الرواية بعض القصص الثانوية كقصة حب الملك شمر يرعش للفتاة النصرانية (سهام )، وقصة حب الأميرة سمية أخت الملك شمر يرعش للقائد وهب أوام وزواجها منه, وقصة رحيل زيد الحلحلي من مأرب إلى غزة, ووقوعه أسيراً في أيدي الرومان, ثم عودته إلى مأرب بعد خروجه من السجن, وقصة زواج ابنته عزة من قيس بن جذيمة عدوه اللدود. فكل الأحداث التي احتوتها هذه القصص أوردها المؤلف ولا هدف لها سوى الإطالة والتشويق, وهما من السمات الأساسية للسيرة الشعبية. ( )
وتقترب بعض الأحداث التي قام بها الملك شمر يرعش من تلك الأحداث التي عادة ما يقوم بها البطل الشعبي في السيرة، الأمر الذي جعل شخصية الملك شمريرعش تشبه إلى حدٍ ما شخصية البطل المنقذ في السيرة الشعبية, فقد كانت الأوضاع السائدة في البلاد – قبل توليه الحكم – تنذر بكارثة في البلاد, فأبوه الملك ياسر ينعم « يجمع المال ويبني القصور ويقتني الجواري, أنغمس في الملذات ووهبها اهتمامه الأول.لم يعد التفكير في قضايا البلاد ليحتل من وقته إلا أسبقية دنيا « ( ) , وحاشيته لا تجيد سوى أساليب الرياء والتملق, قد بسطت
« نفوذها في البلاد , فتراكمت المشاكل وتعقدت , وأصبح حلها من الصعوبة بمكان . تطورت أزمة البلاد من سيء إلى أسوأ «( ). أما الوضع السياسي والاقتصادي فلم يكن بأحسن حال من الأوضاع السابقة, فقد « استفحلت المجاعة وازدادت التمردات وتفاقم خطر غزو الأكسوميين بينما كان الملك منصرفاً عنها إلى شئون حياته الخاصة وأمور الحاشية « ( ). وصار الملك « أعجز من أن يدرك حقيقة الأوضاع أو يتدارك تدهور الأمور « ( ).
وأمام الأوضاع السابقة تتجلى المهمة التي اضطلع بها الملك شمر يرعش،
« وهي مهمة يختلط فيها البعدان الشخصي والجماعي بشكل يصعب معه الفصل بينهما « ( ). فقد استطاع الملك شمر يرعش أن يضع حداً لتدهور الأوضاع في البلاد, وأن يحولها إلى عكس ما كانت عليه في عهد أبيه. ففي عهده عمّ الأمن أرجاء البلاد, وتوحدت أجزاء اليمن تحت حكومة مركزية, شاركت فيها جميع القبائل من خلال مجلس شورى ضم مندوبين عن كل القبائل, وتحسنت ظروف وحياة القبائل المعيشية بعد تأمين طرق التجارة, وترميم السدود وإصلاح قنوات الري, وتشجيع الناس على الزراعة, وقد قاد الملك هذا التحول بجماعته وفي سبيل إصلاح أوضاع البلاد كلها, فاقترب بذلك من شخصية البطل المنقذ في السيرة, ذلك « أن الفعل الروائي في السيرة الشعبية فعل جماعي, تذوب فيه الأنا معانقة الجماعة, ولاسيما البطل الذي يمثل مصالح الجماعة أكمل تمثيل «( ).
أما حدث زواج الأميرة سمية بنت الملك ياسر ينعم التي أحبت القائد وهب أوام, وتصرفت بحرية مع عواطفها تجاهه, وحين حاول والدها الملك أن يصرفها عنه بحجة أنه ليس في مستواها رفضت الاقتران إلا بمن تحب, فكان لها ما أرادت. فمثل هذا الحدث يرد كثيراً في السير الشعبية, فمهر دكار رأت الأمير حمزة البهلوان من نافذتها فأعجبت به, وأرسلت إليه رسالة كانت فاتحة علاقة حب بينهما, ثم ما لبثت أن دفعته إلى طلب الزواج بها من والدها كسرى رغم التفاوت الكبير بينهما, وحين حاول والدها كسرى تزويجها من شريف فارسي لم توافق على ذلك ( ), وتلك حال شامة بنت الملك أفراح أحبت سيفا بن ذي يزن فرفض أبوها زواجها من سيف بإيعاز من الحكيمين سقرديس وسقرديون ( ), وفي سيرة عنترة بن شداد نجد عبلة ترفض طلب أبيها في أمر تزويجها من رجل لا تحبه.
وهناك أساليب استخدمها الكاتب في سرده لأحداث الرواية, تذكرنا بتلك الأساليب التي يكررها القاص الشعبي في سرده الشفاهي للسيرة أو الحكاية الشعبية, من ذلك الاستطراد التبريري( ), الذي يلجأ إليه القاص الشعبي لغرض « التأثير في الجمهور وإقناعه بمصداقية الأحداث وتشويقه إلى أحداث ستأتي وتخفيف وقع أحداث مؤلمة «( ). ومن ذلك أيضاً تدخل الكاتب في السرد من أجل الشرح والتوضيح ( ), واستكناه الشخصيات ( ), فضلاً عن استخدامه الأسلوب الملحمي في السرد, « الذي يقص الروائي به أحداث الرواية بضمير الغائب جاعلاً من نفسه راوية يسرد الأحداث « ( ).
وتحتوي الرواية إلى جانب ما سبق بعض الوحدات الملحمية للسيرة الشعبية كالمدخل التمهيدي عن جيل الآباء, والخاتمة التأكيدية عن جيل الأبناء وإن كانت في الرواية مقتضبة، وبين المدخل التمهيدي والخاتمة التأكيدية تكمن مرحلة البطولة وتحقيق الذات القومية.
استطاع الكاتب أنور خالد أن ينأى بروايته بعيداً عن روايات الإخباريين, التي نقلت أخبار الملكين ياسر ينعم وابنه شمر يرعش بصورة أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة التاريخية ( ). واستطاع أن يقترب كثيراً من الحقيقة التاريخية في تصوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عهد الملك شمر يرعش الذي امتد من النصف الثاني في القرن الثالث الميلادي إلى مطلع القرن الرابع الميلادي. كما التزم الكاتب الأمانة العلمية في تصوير البيئة والأماكن التي دارت فيها الأحداث, فضلاً عن ذكر أسماء القبائل اليمنية سواء المتمردة, أو تلك التي ناصرت الملك شمر يرعش في حروبه ضد الأعداء.
إلا أن هناك بعض الأخطاء التاريخية وقع فيها الكاتب ف « من خلال النقوش التي تتحدث عن الفترة التي اشترك فيها شمر يرعش في الحكم مع أبيه الملك ياسر ينعم يمكن القول بأن تلك الفترة قد شهدت استقراراً عاماً في الأوضاع السياسية وانعكس ذلك على حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية حيث ازدهرت التجارة وعادت من جديد مسيرة الإعمار والترميم للمدن والحصون والمراكز الدفاعية التي تعرضت للتخريب في فترات سابقة «( )، وهذا يُعدّ تعارضاً صارخاً مع ما صورته الرواية من أوضاع متدهورة في عهد الملك ياسرينعم ( ). ولعل الكاتب لجأ إلى هذا التحوير التاريخي لينسجم الوضع مع الصورة التي أراد أن يرسمها للملك شمر يرعش, وهي صورة البطل المنقذ في السيرة الشعبية, الذي يظهر « في وضع سلبي بكل المعايير وإلا فما معنى مجيء البطل المخلص والمنقذ ؟ « ( )
ومن تلك الأخطاء أيضاً أن الكاتب وإن كان قد اختار موت الملك ياسر ينعم بشكل يختلف عمّا أورده الإخباريون في أمر وفاته, إلا أنه « وحسب النقوش التي ظهرت حتى الآن ليس هناك نقش يتحدث عن مصير الملك ياسر ينعم أو العام الذي توفى فيه « ( ).
أورد الكاتب بعض الأحداث والشخصيات الثانوية مع أنها لا تمت إلى الحقيقة التاريخية بصلة. ولعل الكاتب أوردها كحيلة فنية؛ غالباً ما يلجأ إليها كُتّاب الرواية التاريخية؛ لربط أجزاء الرواية وإبرازها للقارئ. وربما أراد الكاتب أن يبرهن - بهذه القصص - على أن إصلاحات الملك شمر يرعش لم تقتصر على الأوضاع السياسية والاقتصادية فحسب, بل تعدت ذلك إلى إصلاح الجوانب الاجتماعية في المجتمع. فقد استطاع الملك شمر يرعش أن يزيل بعض عيوب المجتمع في عصره كالتعصب الديني ( تشير إليه قصة حب الملك شمر يرعش للفتاة النصرانية سهام ) والثأر( تشير إليه قصة زيد الحلحلي مع جذيمة، وقصة زواج ابنيهما, كما تشير إلى قدرة الملك شمريرعش على إزالة الثأر في مملكته ) ومنع المرأة من اختيار شريك حياتها, واصطناع فوارق طبقية في المجتمع الواحد ( تشير إليه قصة حب الأميرة سمية للقائد وهب أوام، ورفض أبيها زواجها منه، ثم موافقة أخيها الملك شمريرعش على هذا الزواج ).
وقد لا تتفق نظرة الكاتب هذه لشخصية الملك شمر يرعش مع الحقائق التاريخية, إلا أنها تندرج ضمن رؤية القاص الشعبي لبطل السيرة, الذي يلتزم قضايا قومه ويخوض الصراع من أجلها.
و مما يؤخذ على المؤلف طريقة تعامله مع الأحداث التاريخية, لاسيما حدث توحيد أجزاء اليمن في مملكة واحدة. فالحدث على الرغم من أهميته التاريخية, إلا أن تصويره في الرواية كان باهتاً، لا يتناسب وأهمية الحدث. ولعلّ ذلك يرجع إلى النقوش التي اعتمد الكاتب عليها في روايته، ف « لم يعثر على نقش ملكي يتحدث عن الخطوات التي أدت إلى إخضاع حضرموت ويمنت»( ). وربما أراد الكاتب أن يقنعنا أن الوحدة بين مملكة سبأ وذو ريدان ومملكة حضرموت ويمنت, تمت بطريقة المفاوضة والحوار, وهو ما يجافي الحقيقة التاريخية؛ التي ذكرت أن الملك شمر يرعش خاض حرباً من أجل هذه الوحدة, وإن كانت « النقوش التي تتحدث عن المعارك التي دارت داخل أراضي حضرموت محدودة العدد, إضافة إلى أن المعلومات التي تحتويها مقتضبة إلى حد كبير « ( ). والرواية سجل حافل بالمعتقدات الدينية, والعادات والتقاليد الشعبية السائدة في تلك الحقبة التاريخية التي تصورها الرواية.
صدرت الرواية عام 1992م, وعلى غلافها وصف للرواية على أنها رواية تاريخية من التراث اليمني, إلاّ أنها تظل قريبة من التوظيف الفني للتاريخ بما تحويه من دلالات معاصرة, تمثلت بإسقاط الماضي البعيد على الحاضر. فقد وافق صدورها العيد الثاني لقيام الوحدة اليمنية, كما جاء صدورها متزامنا مع مسائل الحدود, التي بدأت تطفو على سطح العلاقات الدولية بين اليمن الموحد ودول الجوار, وهذا ما يؤكد دلالتها المعاصرة. ولعل تطرق الكاتب إلى بعض عيوب المجتمع اليمني في التاريخ المعاصر, كالثأر, وعدم إعطاء المرأة حرية اختيار شريكها في الحياة, وتقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية, يؤيد ما ذهب إليه الباحث وإن كان المؤلف يرى غير ذلك (*)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.