أولاً: الاتجاهات الوطنية لم تكن مغامرة تلك الخطوة الجريئة التي اتخذها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في اجتماعات اللجنة التأسيسية التي انعقدت في عدن عام 1980م بإصدار مجلة «الحكمة» أو بالأصح إعادة إصدار مجلة الحكمة، والتي على أثرها صدر العدد الأول من الحكمة الثانية في الخامس عشر من ابريل عام 1971م وذلك في الذكرى السادسة لاستشهاد الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري، وجاء صدورها في هذه المناسبة تعبيراً عن وفاء اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لشهداء اليمن من أرباب الكلمة والقلم. ومن حينها أخذ كتاب الحكمة يكرسون في كتاباتهم الدور النضالي للرعيل الأول من المناضلين في سبيل القضية الوطنية، و أخذوا يقيمون حركة الأحرار اليمنيين، وكتابات رجالاتها ويدرسون أفكارهم على ضوء الوثائق والمعطيات الجديدة التي ظهرت بعد الثورة، وناقشوها من منظور واقعي مدروس، فظهرت على صفحات مجلة الحكمة الثانية عشرات الدراسات والمقالات التي تناولت تاريخ حركة الأحرار، بفضل تبني اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لهذا التاريخ المجيد، والذي فتح الطريق أمام المؤسسات الثقافية والمراكز البحثية للبحث والتنقيب والدراسة، ليس لدراسة الحركة الوطنية فحسب بل دراسة كل الميراث الثقافي لكل الذين اسهموا في الاضطلاع بأدوار عظيمة في النضال الوطني. ولقد استطاعت الحكمة بتبنيها هذا الميراث الثقافي الوطني الكبير أن تضيف إلى المكتبة اليمنية انتاجاً غزيراً وجديداً من الرؤى والأفكار، وعملت على توطيد أصول للثقافة الوطنية، وكرست جهودها لتقييم التاريخ اليمني الحديث، واهتمت بالقضايا اليمنية المختلفة، كما احتفت بميراث قادة الحركة الوطنية ووثقت لهم..وأبرزت على صفحاتها طبيعة الصراع الثقافي والصدام الأيديولوجي الذي كان سائداً إبان حكم الإمامة والاستعمار في شطري اليمن سابقاً. وكانت مجلة الحكمة تسعى للتوفيق بين الاتجاهات والميول والأهواء في مجتمع مجزأ ومشطر، وعملت في الوقت نفسه على المحافظة على الجميل من الثقافة اليمنية وفسحت الطريق للجديد الحي كي يشق طريقه في مجتمع متخلف، فكانت الحكمة بمثابة سفينة تخترق عباب البحر الهائج بصعوبة تتقاذفها الأمواج العاتية يميناً ويساراً، أو بالأصح كسفينة نوح تحمل حياة اليمنيين جميعهم بداخلها وتصارع الطوفان دون أن تضحي بأي منهم ، مهما اختلفت معهم، ومهما تباينت أفكارهم، ولهذا كانت تحمل بين دفتيها الغث والسمين، لحرصها على إرضاء جميع كتابها. وكانت تتبنى الجديد والقديم من الأفكار والرؤى، منطلقة من النظرة الموضوعية والواقعية للانتاج السائد في مجتمع مجزأ ووطن مشطور، ورفضت التعاطي مع الشعارات الجوفاء، والنظرة الجزئية إلى الأشياء، وتبنت بعمق النظرة الشمولية للفكر، وبسطت للقارئ كثيراً من الأمور التي كان من العسير فهمها. ولم تكن الحكمة منحازة إلى فئة واحدة من السكان، ولا إلى طبقة اجتماعية بعينها، ولا إلى فكر محدد، بل انحازت إلى الشعب كله بمختلف فئاته وطبقاته وتعدد مشاربه الفكرية والثقافية فقدمت بعض أعلام الغناء والطرب كالقمندان والآنسي، وفي الوقت نفسه لم تهمل التراث الشعبي، بل أعطته حيزاً من الاهتمام والرعاية، فنشرت بحوثاً ومقالات قيمة في مختلف جوانب التراث الشعبي، فظهرت على صفحات مقالات متعددة قيمة تعنى بالحكايات الشعبية، والأمثال وترانيم الطفولة ونحوها. واستطاعت الحكمة خلال مسيرتها الطويلة أن تعبر عن الثقافة العربية في اليمن خير تعبير، بما تضمنته من مقالات وبحوث ودراسات وقصائد وقصص ونحوها تمثل المواقف المختلفة للتيارات الفكرية والأدبية والسياسية المتعددة، فكانت لسان حال كل أدباء اليمن وكتابها الذين تعاطوا مع مختلف القضايا بإيجابية وحيوية. وكانت قضية توحيد الوطن في موقع الصدارة بالنسبة للقضايا الأخرى، وهي التي شغلت حيزاً كبيراً من صفحات المجلة، والقاسم المشترك لاهتمامات الكتاب، إذ أن الشعارات والأفكار التي تبناها كتاب الحكمة الوطنيين بمختلف مناهجهم تكاد تكن متقاربة في مايخص الآمال الوطنية التي كانوا يطمحون إليها. وبمراجعة بسيطة لكثير من مقالات مجلة الحكمة الصادرة قبل الوحدة المباركة1990م نجد أنها تبنت أفكاراً واحدة تكررت هنا أو هناك حول وحدة الوطن وازدهار الثقافة والمحافظة على التراث، ورص صفوف اليمنيين جميعاً نحو السعي لتحقيق وحدة الوطن، والعمل على مقاومة التشطير والتفرقة، وهي التي ساهمت إلى حد كبير بخلق ثقافة وحدودية لدى كثير من المثقفين اليمنيين، وقد أتى ذلك انسجاماً مع الهدف الذي تأسس من أجله اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وهو جمع مشاعر اليمنيين الوحدوية، في إطار يحميهم من زلل الانفصال والتفرق. ولقد شغلت مجلة الحكمة طوال تاريخها وإبداع الأقلام اليمنية من كل مناطق اليمن، وافساح المجال للبراعم التي تفتحت في صفحات المجلة. وحرصت أن تكون مقالاتها تمثل مختلف التطلعات الإبداعية لأعضاء اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. وبفضل ذلك التنوع أصبحت الحكمة خليطاً متنوعاً من الابداع الفكري والثقافي، ومثالاً يحتذى للمجلات الثقافية، فقد استطاعت أن تجسد الثقافة الوطنية وتنميها، وعملت على إرساء أسس الوحدة اليمنية، وبذلت مافي وسعها لنشر الانتاجات الأدبية والعمل على فرز العطاءات الخلاقة في مجالات القصة والشعر والدراسة والبحث والنقد والمسرح و غيرها ونجحت في وضع مدماك لمدرسة نقدية يمنية متميزة بما نشرته من مقالات نقدية تتسم بالمنهجية العلمية إلى حد ما، فقد سلطت الضوء على كثير مما كان يكتبه الكتاب والشعراء، وعلى مانشر فيها أو في غيرها من المجالات، بهدف غربلتها وفرز إيجابياتها وسلبياتها، وتقويم جوانب النقص والسلبية فيها لرفع مستوى العطاءات الأدبية وتحسين نوعية الانتاج الثقافي عموماً. ثانياً: المواقف الوحدوية اتخذ اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مواقف واضحة وشجاعة وجريئة إزاء كثير من القضايا الوطنية، وكانت قضية وحدة الوطن في المقدمة، فقد كان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين يناضل بحماس من أجل إعادة تحقيق وحدة الوطن، ويستغل كل مناسبة ليطرح قضية الوحدة بجرأة وشجاعة. ولقد كان الاتحاد مبادراً في التعاطي بإيجابية مع المسألة الوحدوية، إذ بادر من بداية تأسيسه لطرح الوحدة اليمنية على بساط البحث والمناقشة متجاوزاً في ذلك ظروف التشطير المقيتة وسعى جاهداً لدى السلطات الحاكمة في الشطرين لتقريب وجهات النظر في الأمور المختلف فيها، وبذل مافي وسعه لتجاوز أوضاع التشطير، ونجح في أن يكون كياناً وحدوياً منذ تشكيل اللجان التحضيرية لتأسيسه، وحرص على أن ينأى بالأعضاء أن يكونوا طرفاً في الصراعات السياسية بالرغم من أن معظمهم كانوا مقربين من السلطة أو مشاركين فيها في هذا الشطر أو ذاك، ولكنهم جميعاً منضوون في إطار منظمة جماهيرية واحدة، ومؤمنون بحتمية تحقيق وحدة الوطن. وفي افتتاحية العدد الأول من السنة الثانية من مجلة الحكمة الصادرة في 15 يونيو طالب المرحوم عمر الجاوي رئيس تحرير المجلة من السلطات الحاكمة في الجنوب إلغاء قانون الجنسية الذي يعتبر أبناء الشمال غرباء على الجنوب، ودعا إلى الغاء كل القيود التي تعيق التقاء اليمنيين وتقاربهم أو تحول دون تشكيل منظمات جماهيرية موحدة، ومما قاله بهذا الخصوص مانصه:« لاينكر الوطنيون اليمنيون الصعوبات العملية التي يواجهها شعار الوحدة اليمنية، فلقد زرع الائمة والسلاطين التخلف منذ قرون وأسسوا معوقات حقيقية كانت الطائفية والسلالية والاقليمية على رأسها، وحين انفصل بعض عمال الإمام وحكامه في بعض المناطق وأسسوا سلطنات في حضرموت ولحج وغيرها إنما انطلقوا بالدرجة الأولى من خلاف طائفي أو اقليمي أو قبلي في مصارعة الحكم المركزي، وتفتيت الأرض اليمنية في مرحلة تعتبر من أكثر المراحل انحطاطاً في تاريخ بلادنا. وجاء الاستعمار البريطاني ليدق اسفينا بين الشمال والجنوب بقصد تكوين دولتين هزيلتين في أرض واحدة لشعب صغير واحد، ورغم كل المحالاوت الإمامية الانجليزية في تقسيم اليمن إلى دولتين ظل الشعب اليمني يناضل دون التفات إلى مثل هذه المؤامرات، فلقد تفهم بحسه الثوري الجبار أن النضال وحده هو الكفيل بتصفية الرجعية والاستعمار وإعادة توحد اليمن في جمهورية ثورية تمضي في طريق التقدم والوحدة العربية». وأردف قائلاً:« واستكمل الشعب اليمني استقلاله في الثلاثين من نوفمبر 1967م بعد طرد الإمامة من صنعاء بخمس سنوات، واستعاد اليمنيون ذكرى خارطة دولتهم الموحدة، وعلت الابتسامة الوجوه رغم الحرب الأهلية في الشيخ عثمان في 3/11/1967م وانقلاب صنعاء في 5/11/1967م اللذين أوجدا سلطتين متمايزتين في اليمن الأمر الذي أوجد منفذاً وممراً للمؤامرات الامبريالية وتكريس الانفصال في بلد غير قابل للنمو مطلقاً دون وحدة أراضيه وشعبه». ويعلق على قانون الجنسية الجنوبي قائلاً:« وفي بعض المناطق وضع قانون للجنسية يتنافى تماماً مع طموح اليمنيين ووحدة أراضيهم، وبدأت القوى الرجعية والاستعمار تدس بين ماتسمى الشمال والجنوب وتؤجج الصراع على أساس إقليمي». ثم يحدد موقف اتحاد الأدباء ومجلة الحكمة من قانون الجنسية قائلاً: «ولأننا قد حددنا وجهة نظرنا في سلطة المشايخ التي يهمها بقاء اليمن مجزأ بحكم مصالحها وقيمها وتفكيرها، فلابد من صد كل من يقف في طريق الوحدة اليمنية..كما فعل أولئك الذين عرقلوا مسيرة الوحدة بقانون الجنسية المشؤوم». وطالب بإلغاء القانون قائلاً:« إن إلغاء القانون الذي يعتبر اليمني غريباً في أرضه بعد 22 يونيو سيقفز باليمن وبالقضية الثورية وقضية الوحدة إلى المسار الصحيح الذي يجب أن يستغله الثوريون اليمنيون ويمضوا به حتى النهاية». ولم يكتف كتاب الحكمة الثانية بإلغاء قانون الجنسية، بل بذلوا مافي وسعهم لتخفيف التوتر بين الشطرين، ودعوا إلى برمجة الاقتصاد اليمني على خط الوحدة. ورفع كثير من كتاب الحكمة شعار توحيد الحركة النقابية اليمنية ودعوا إلى جمع العمال في منظمة واحدة، ولأول مرة يشترك الأدباء اليمنيون بوفد موحد في المؤتمر الثامن للكتاب والأدباء العرب الذي انعقد في دمشق عام 1971م وتبعهم في مابعد الصحفيون، ثم الحقوقيون والأطباء والمهندسون وغيرهم. وكان لمجلة الحكمة وكتابها فضل السبق في الدعوة لتوحيد المنظمات الجماهيرية والمهنية والسعى لدى الحكام لتحقيق ذلك. وكان الأدباء والكتاب اليمنيون يضعون قضية الوحدة اليمنية على رأس الأولويات في القضايا التي يطرحونها مع رؤساء الشطرين معتبرين المواجهة والمصارحة أفضل بكثير من تقديم المذكرات والوسطاء، وقد اشارت الحكمة في احدى افتتاحياتها إلى أحد اللقاءات الرمضانية التي التقى فيها الأخ الرئيس علي عبدالله صالح مع عدد من الأدباء والكتاب اليمنيين، واللقاء الآخر مع الرئيس علي ناصر محمد قائلة:« وضعت القضية الوحدة اليمنية كأول محور للحديث في اللقائين ورغم اليأس المقنع في عملية النقاش وعدم إدراك المهمة لدى البعض فقد كان المقصود وقبل كل شيء أن نوجد مع الحكام برنامجاً عملياً يضع الأسس الثقافية التي في مقدرونا أن نقوم بها كتمهيد لتوحيد الوطن، ولأن القابض على شعار الوحدة كالقابض على جمرة من جهنم اكتملت الفكرة لتؤدي إلى النتيجة المعروفة لدى الجميع، اننا كلنا حتى الانفصاليين مع الوحدة، ونترك التفاصيل، الأدباء في مجالهم يضعون بوضوح مسائل محددة لتوحيد بعض مناهج التعليم الخاصة بالأدب في اليمن والجغرافيا والتاريخ وربما المواد الاجتماعية. ولقد وضع الكتاب في لقائهم مع الرئيسين موضوع التنسيق على نطاق الجامعتين ومراكز البحوث ومؤسسات ووزارات الثقافة والإعلام، واتضح أن الرئيسين يطمحان إلى تعاون على هذا الطريق، وأن اتفاقيات حقيقية قد أبرمت وحتى الدعوة إلى ايجاد وحدة للجمعيات المهنية الخاصة بالفنانين والصحافيين والأطباء والمهندسين وعلى نطاق الوطن أكدت من قبل الرئيسين، ولم يتقدم أحد خطوة إلى الأمام». الحكمة العدد «211» يوليو 1948م. وفي اللقاءات المتعددة التي التقى فيها الأدباء والكتاب اليمنيين بالقيادات السياسية بادر الأدباء بطرح موضوع انزال دستور الوحدة للجماهير لغرض مناقشته واثرائه بالآراء والمقترحات، وتمهيداً لإنزاله للاستفتاء عليه. وقد بادرت مجلة الحكمة وقامت بنشر مسودة الدستور في عددها رقم 231 الصادر في اكتوبر 1986م وعلقت على ذلك قائلة:« لقد ارتأت هيئة تحرير الحكمة أن يطلع القارئ اليمني على هذا المشروع المهم في تاريخ نضال شعبنا من أجل إعادة الوحدة وذلك حسب النسخة الأصلية، قبل أن ينشر مترجماً عن اللغة الانجليزية. ومشروع الدستور الذي يوضع لأول مرة أمام المواطن اليمني قد أخفي قرابة خمس سنوات من 30 ديسمبر 1981م ربما لأن المسؤولين قد شعروا بأهميته القصوى فأرادوا أن ينزلوه إلى الجماهير للاستفتاء عليه حين تنضج الظروف لنجاح الاستفتاء». وفي عدد لاحق قالت الحكمة:« نستطيع الآن أن ندعو جماهير الشعب وعلى وجه الخصوص طليعتها ممثلة بالأحزاب والتنظيمات السياسية علنية كانت أم سرية إضافة إلى المنظمات الجماهيرية والنقابية والمهنية وحتى الجمعيات العلمية، نستطيع أن ندعوهم مع الأفراد إلى مناقشة وضع برنامج وخطة واضحة يلتزم بها أنصار الوحدة للاستفتاء على الدستور ومن ثم تنفيذه على الوجهة المتفق عليها» الحكمة العدد «331» نوفمبر 1986م. وعلى طريق تحقيق الوحدة بادر الأدباء والكتاب بتوجيه رسائل إلى القيادات السياسية في الشطرين تدعوها للاسراع في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق ماتم الاتفاق عليه على طريق الوحدة ووضع البرامج المنفذة لذلك.