إلا الزنداني!!    جنرال أوروبي: هجمات الحوثيين ستستمر حتى بعد الحرب على غزة    صافح الهواء.. شاهد: تصرف غريب من بايدن خلال تجمع انتخابي في فلوريدا    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    تصريحات مفاجئة لحركة حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والانخراط ضمن منظمة التحرير بشرط واحد!    البحسني يشهد تدريبات لقوات النخبة الحضرمية والأمن    عقلية "رشاد العليمي" نفس عقلية الماركسي "عبدالفتاح إسماعيل"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حضور شعبان بن بدرية متألقاً في غيابه
نشر في الجمهورية يوم 01 - 03 - 2007

إبراهيم جاد الله : شعبان بن بدرية، صار قاسماً مشتركاً في كل اهتماماتك، الخاصة منها والعامة، مايقع في علب الحكايات التي يتلهى بها بشر يعرفونك ويقرأون ماتكتب، أو مايكون مؤشراً على شكل الوقائع والأحداث التي تقع جارية وراء ظهرك،كنت غافلاً عنها أو مغلق معرفتها عليك،فبقدر ماتحاول التوحد مع الأشياء والبشر في قريتك، وبقدر ما تخفي هي هموماً كثيرة، ووجوهاً أكثر، وملامح تحاول النقر عليها في أكوام الهمهمات والتهامسات والأحاديث العابرة، المتقطعة والمسترسلة، بالليل أو بالنهار، في حجرات النوم أو الأفران عند الخبيز، فوق أسطح البيوت أو أمامها على العتبات، وفي سكك مسارح البهائم صباحا أو بعودتها عند الغروب، فوق مدقات رفيعة وسط الغيطان أو فوق أكوام السباخ وتلال قش الأرز، أو بجوار ماشية مربوطة بمزاودها، تدفن رؤوسها في أكوام البرسيم أو أعواد الذرة الخضراء وأوراقه، تحت الأشجار الظليلة أو المثمرة توتاً، أو على سواحل الترع المعشبة التي لا تكفي زراعتها بيوت البلد فجلاً وجرجيراً وسريساً، في عربات الميكروباص وسط طلاب وعمال مصانع السماد والخشب الحبيبي وموظفين وبياعين وعاطلين ومتسوقين وبائعات اللبن أو الحمام أو بيض الفراخ ووسطاء بيع المحاصيل في المنصورة، كرنب أو عنب أو فول أخضر أو بازلا وكيزان الذرة الخضراء، محامين ومطلقات وساعيات إلى معاش الضمان الاجتماعي «السادات»،مرضى يذهبون للمستشفى العام ويعودون مخذولين بعلاتهم أو بأطفالهم لم تذهب عنهم حمى أو تعود إلى جلودهم حياة امتصها الجفاف.
لم يعد الطريق الذي يربط بلدك بالمنصورة قائماً على الأسفلت فقط، بل صار في كل مناحي الحياة ومشاغلها، قائماً في المخيلة وفي الواقع وبقدر ما بدأت منذ سنوات قليلة هجرة معكوسة من المنصورة إلى بلدك ،حتى قدرت عدد الأسر الوافدة للسكن بها إلى أكثر من مائة وخمسين، بقدر مايضاعف هذا العدد أسر تطمح وترنو إلى الأبراج السكنية والشاطئ النيلي ولمعات السيارات والمحلات المضيئة ليلاً والعصارات والمدارس وازدحام السوق بكل مايلزم ملء المعدة أو الترفية عنها بحلوى الفاكهة والشراب، أن تترك البلد وتسكنها، وحيث تستطيع السفر منها إلى كل المدن التي ترغبها أية لحظة من الأربع وعشرين، وإن كان هذا الأمر ينطبق في بعض جوانبه عليك، إلا أن أشياء في داخلك تجعلك مشدوداً، لاترغب في مبارحة حجرتك بالدور الثاني من دارك المطلة على طريق الأسفلت الصغير والبشر والعربات والدواب، ترى بدء النهار وضوءه، ونور الشمس، واختفاءه الذي يلاحقه نور أعمدة الكهرباء، والفراشات الوافدة من الغيطان الممدودة نحوها، وشعبان بن بدرية الذي يسمعك صوته صباح مساء بخطوه الزاحف، وبحكات حذائه في الأسفلت التي تميزها حين يمشي، لكثرة ترقبك لها صرت تميزها كما تميز غيرها، فالترقب أوجد حالة استيعاب عامة لوقع الأقدام وصوت الأنفاس وتهامس الصبية ومجونهم، وأحاديث الخفراء الكسالى وفي يد كل منهم عصاة يضرب ببوزها الأرض في خطوهم البليد وكأنها أدوات بحث عن ألغام أرضية وليس غريباً أو غير مألوف هذا الذي بينك وبين شعبان، هناك مواقف وعوالم لاتستطيع بمفردك الاطلاع عليها ،فمهما كانت إمكانياتك ستبوء بعجز في بعض الأحيان، لأن حاجزا ما أقامه مغرضون أو متضررون مما تكتب بينك وبين ناس بلدك، ولم يكن يدور بخلدك هذا الأمر قط، أو لم تكن لديك رغبة أن يصل مابينك وبينهم إلى هذا القدر من الحذر والريبة منك، وأنت لاتصطنع ألفة، ولا تزعم أو تدعى تواضعا زائفا، بل هي ملامح كونك الداخلي من تشكل نظرتك للدنيا والناس :«أغنى أغنيائها عندك كالغارق في عوزه حتى أذنيه، ينام الكل ليلاً على مرقد لايزيد عن حجم جسده ،وسيكون هذا شأنه بآخرته، والكل في دنياه يأكل حين يجوع، ويخرج فضلاته متى ألحت عليه، يحب ويكره، ويتناسل ويعرق ويبول، وطال أم قصر عمر كلٍ فالنهاية محتومة للجميع، والحصيلة قطنة في فتحة إليته وشبران من باطن الأرض وتراب سبخ سيغطيه، فلماذا التباهي والتباعد أو حتى الاغترار، ولماذا التواضع الزائف أيضاً وهو أقسى بل أخطر من الغرور»؟
وشعبان بن بدرية يرتاد الأماكن التي لاتستقبل بها أنت بسبب من كتاباتك وقصصك عنهم، هم مادة وعيك الصحيح، وضفة من ضفاف تجاربك في الدنيا، وشعبان يمدك بحكاياته وحكايات عن هؤلاء الذين يسوقون بهائمهم صباحاً، وينثرون السباخ في غيطانهم المهيأة لزراعة جديدة، والمصلون في الجوامع التي لايدخلها هو، والمتنطعون أمام الدكاكين وساحة مركز الشباب، وعند الحلاقين ومصلحي السواقي ومرتقى الأحذية القديمة وبائعي المبيدات الزراعية التي تضر أكثر مما تنفع، وهو قائم أبداً بينهم، ومن يحصدون الأرز والقمح ويدرسونهما، ويجنون لوزات القطن البيضاء ويطهرون الترع والقنوات ويصطادون من مجارى مياه ركدت أسماكاً نيلية طيبة الطعم، توفر طبخة ليلية في بيوتهم، ويبيعون ماتبقى عن الحاجة ليشتروا سجائرهم أو فاكهة لعيالهم، هؤلاء صاروا أيضاً يحذرونه ويحذرونك، ويرتابون من محاولاتك التقرب عن طريقه إليهم، يلعنون في غيبتك سلالتك منذ أول جد سمعوا به ويذيل اسمك حتى من أنجباك وحين تمر بهم مسرعاً كعادتك أو متباطئاً، يصمت همسهم، ويرفعون الأكف لك بتحايا حارة يمايزونك بها عن بقية خلق الله، لأنك ابن كبيرهم كما يقرون، وميسر عسر مشاكلهم، والقدوة بينهم عمراً طويلاً، من أيام الاتحاد الاشتراكي، وقد كان أمين وحدته الأساسية في البلد حتى الحزب الوطني الذي لم يتصور حاله منتمياً له يوماً لكنه بقى على حاله كبيراً في عيونهم كان وفي اللحظات المؤرقة يأتي قوله فصلاً بين المتخاصمين وفي غيبتك هو ملعون، لأنه لم يستطع تقويمك وإحسان تربيتك، وأن «الابن الخرة» يجلب لأهله ألف لعنة، فلم يمنعك من التعرض لهم ولمباذلهم في كتاباتك ويقال أنه كان فخوراً بك منذ أول مرة رأى اسمك مرسوماً قبل اسمه أسفل قصة نشرت لك، وكانوا يقولون له دوماً: إن ابنك لم يقدر على الحمار فاحتك بالبرذعة، فقد سكت وانزوى في داره بعدما جرب سجون من تحدث عن ضياعهم للوطن بعدما نهبوا ثرواته، وقد أهانوه وحرقوا مستقبله.
وهاهي قصة أخرى لك أخبرك كثير من أصدقاء بها منشورة بصحيفة أسبوعية شهيرة تهتم بالإبداع والأدب لم تكن لك بل كانت عنك ومعنونة باسمك، وكان كاتبها صديقك وهو محترف الكتابة مثلك، وأنجز كثيراً من قصص حازت جوائز وتقديرات نقدية قد حاورك مرات عدة، وتطورت حواراتكما إلى صداقة شملت أسرتيكما، ولأنه واجد فيك مايشبه ظروفه من مرض الابن الوحيد مثلك مرضاً لايرجى له من شفاء، ووجدك تغالب الدنيا كلها بمافيها أساك على ابنك بالدعابة والسخرية المرة في بعض الأحيان، بصوت عال من كل معوقات الحياة والفرح بها، فسرها هو قوة داخلية فيك، تمثلها، وتقوى بها، وأثمرت محاولاته، حتى صار وهو المتجهم القانط دوماً يمازحك عبر الهاتف، وابتكر طرقاً لإطلاق النكات والدعابات، واكتشف قدرة لديه في التندر وإجلاء الروح بالممازحة وكسر الأحزان، كتب قصة عنك وعن آخر رواياتك أسماها طرف ثالث وهو أستاذ جامعي شهير: «قصة القاص والقصة»، وأتى صديقك باسم شعبان بن بدرية صراحة، وقال إنك حاذرت التصريح باسمه في رواياتك حين استبدلته بشوقي بن بدير تحسباً لهمجيته وأنك صرت تحسب ألف حساب لكل كلمة تكتبها، وتحاذر دوماً بعد أن عركتك تجارب الكتابة والدنيا وأخذت منك ماأخذت ولم تبق لك تجارب الاعتقال بسبب من انتماءاتك السياسية والفكرية والملاحقات والمطاردات التي طالت خوفاً يسكن أعماقك ويدمغ تصرفاتك، وأن حماسك القديم قد هرب منك وأن دأبك وعفويتك وانطلاقاتك الغير هيابة لم يعد لها من مكان، صرت تخشى المبيت خارج دارك ليلة واحدة بدون عذر لائق لا يسب قلقاً أو توجساً، ستكون إجابة زوجتك عسيرة إن سألتها واحدة من بناتك الثلاث عنك، أو وحيدك لو واتته لحظة يقظة من غيبوبة مرضه المزمن، وقد يختلج صوته بنشيج لو مرت ليالٍ مثل التي كنت تقضيها في أقبية الزنازين أو مطارداً لايعرف لك أحد أرضاً، وكان مغرضون يحدثون لك ضجيجاً تحت نافذتك، بل يقذفونها بحجارة عساك تخرج إليهم فينالك حجر يشق رأسك.
ولما حاولوا تحريض شعبان بن بدرية ضدك بأنك أوردته في روايتك شريراً وقاطع طريق ولصاً في أسواق البهائم ومرتزق انتخابات، وأنه شق رأس صبي أيام الانتخابات الأخيرة التي أوردتها بروايتك الأخيرة، قال ساخراً منهم: إنك رجل محترم، وأنك أجدر من يستحق عضوية البرلمان، وأفضل من زكائب الفلوس التي حصلت على العضوية، وهو كلما يمر عليك، يحييك رافعاً يده إلى أعلى رأسه: أهلاً سيادة النائب، لكن عيبك الوحيد برأيه أنك لم تذكر الحقائق كما هي وكاملة، وكانوا قد أسمعوه ماكتبت عنه، فهو لم يشق رأس الصبي، بل أهان مؤخرته، وأن تربيتك الحسنة حالت بين قولك الحقيقة تلك، أرجع هو الرقابة الداخلية التي مارستها على نفسك إلى أخلاقك الطيبة، وهو غاضب منك لهذا السبب فقط، كان يودك لو تذكرها وأن لا تخش شيئاً، أحببت شعبان أكثر، لأنه لم يجمل نفسه، أو ارتدى ثوباً يغطي حقيقته، لم يدع صلاحاً، وتعلمت منه كيف يمكنك قول الحقيقة إذا كان القناع الذي ترتديه يتطابق تماماً مع وجهك، فلا أقل من كونها صريحة ومباغتة دائماً، مهما تكن عواقب كلمتك وأية مفارقة تلك التي يطلقها شعبان بن بدرية لما غضب منك، لأنك تدخلت في سرد حياته وسلوكه؟
هو لايعرف ألا عيبكم الفنية أيها الكتاب، ولايدرك ضروراتكم التي تزعمون، هو بسيط رغم شراسته، وبسيط لحد أن رزق يومه بيومه ينفقه، فصباحا يوصل أجولة الفول الاخضر أو البازلاء التي اشتراها من الغيطان بميزان قباني إلى السوق، ويبيعها مفرقة بالكيلو، عند الظهيرة يكون قد حسب حساب ربحه وضمن علبة أو فاكهة، وآخر الأسبوع اللحم الأحمر أو الدجاجة المذبوحة، يسكت بها عويل أمه المستمر وشكواها من زوجته التي لم تكمل عاماً واحداً من الزواج به، وشجارها الذي يلتم له النسوة كل صباح، يمصمصن ويثرثرن ويشتمن ويعنفنها كثيراً، وشعبان غير آبه دائماً بما يحدث لا اعتراض عنده، بل هو يفرح أن تكتب عنه وعن ساكني الحارات الضيقة المتلاصقة الدور والأسطح التي تسهل محاولات السطو على مخازن الغلال الطينية أو عشش الفراخ والبط، أو القفز بينها لعلل أخرى، هو مغتبط منك لذلك، ويباهى أقرانه بصداقته لك ويستحثك كثيراً، فارضاً عليك سؤالاً.
منذ زمن وأنت تجتهد في الإجابة عليه، وخاصة بهذا الوقت الذي يتصارع فيه أشقاؤك حول ميراثكم من أبيكم، هل يجب أن تحب الآخرين كما هم، أو كما يجب أن يكونوا؟ وأنت تحبه، وفقط، ولأنه فيما خفى يشعرك أن الكتابة وهي طينة حياتك، منها مادة بقائك، وإن كانت قاسية نوعاً ما، فما عساك تقول إذاً حين تتهيأ للكتابة عن آخر لحظات شعبان بن بدرية معك؟ بل مع الدنيا كلها؟ هل تقبل أن تمشي في سكة كلام تلوكه ألسنة الناس منذ صباح هذا اليوم؟ حين ركب شعبان بصندوق العربة «التويوتا» النصف نقل، واقفاً وسط ذاهبين للتسوق فجراً، يوم الثلاثاء هو يوم راحته الأسبوعية من سوق الخضار، وهو يوم سوق البهائم، ولاحيلة له فيه، لكن به يقتل ضجر الأسبوع في المزاح والتسرية مع أقرانه، يلبس طرطورا، أو يشترى طبلة، أو يقلد عسكرى المرور عند البوابة الرئيسية للسوق، أو يزاحم السماسرة والمحتالين والشحاذين والمتسوقين، أو يغازل امرأة في عمر أمه وزوجته، ولا يخلو الأمر في كل أسبوع من لطمة أو مناوشة صغيرة مع آخرين بسبب امرأة أوصبية، أو ثقل مزاح مع متسوق، هذا اليوم كانت قبضة قوية تلتف حول رقبته فجأة وهو منكفئ على صندوق بائع السمك وقد انتفض يركض خلف شقي كان يشاتمه، وقبضة أخرى أكثر عنفاً فوق معصم يده التي تلم الفلوس من الصندوق، وكأن زلزالا وقع بالسوق، كان الناس بمختلف هيئاتهم يزحفون راكضين نحو البقعة التي ضبط فيها شعبان متلبساً بسرقته، وكانت أياد كثيرة فارغة، أو بها شيء ما تنهال على رأس وجسد شعبان، ويقال إن الثلاثة عساكر المسنين المكلفين بأمن السوق الواسع مع ضابط يجلس في كابينة «البوكس» يطالع صحف النهار لما حضروا لاستطلاع الأمر، وكان المفترض القبض على هذا اللص لاتخاذ الإجراءات المعتادة معه، لكن عربة الإسعاف هي التي استدعيت على عجل، بينما لم يبارح الموقف أحد، وحمل شعبان والدم يسيل من كل مكان في جسده، والبقع الحمراء والداكنة الزرقة تملأ وجهه، ويقال إنه فارق الحياة قبيل وصول عربة الإسعاف إلى المستشفى القريب، هل تقنع بتلك الرواية للأحداث، أو أن لديك رواية أخرى للحظات الأخيرة في حياة شعبان بن بدرية، وأنك تأخذ بها؟ قد تكون من نسج خيالك الفني، أو من ذلك التوافق بين محبته لك، وبين إصرارك على مخالفة كل مايقال عن شذوذه الإنساني وانحرافاته، وأنك الوحيد الذي ينصفه، لأنه يحبك، ويجاهر بحبه، وأنه يحمل في داخله قدرا عالياً من الرجولة وطيبة القلب في آن، لايتسنى امتلاكها لمن يملأون الدنيا ضجيجاً بأفعالهم وفضائلهم الوهمية على البشر، وأن هذا الحدث لم يزد عن إجارة شعبان لصبية كانت تضع «مشنة» الليمون الأخضر أمامها بالسوق وتنادي عليها، وأن عجوزا متصابياً يلاحقها ويتحرش بها منذ عدة أسابيع، وأن شعبان كان يتابعه ويحنق عليه لما بدا منه مقصد تجاهها، حين رآه يزحف ببوز حذائه تحت فخذها المطوية على فرشتها، وكانت كلما تنهره يزداد إصراراً على تحرشه، أو استطلاع مدى تمنعها، ولما استجارت بشعبان، لم يتوان لحظة عن لطم العجوز على قفاه فطرحه أرضاً منكباً فوق وجهه، ولما احتج شبان، حال مرورهم به على تصرفه مع العجوز، كان هو قد وصل غضبه إلى حد لم يستطع السيطرة عليه أو توجيهه في مساره الأهدأ، بإظهار نذالة العجوز، لكن التلاحم ساعتها بينهم وبينه كان قد اكتمل، ولما لمعت مطواة «القرن غزال» سحبها من ثنية حزام بنطاله، لمعت مدى كثيرة في أياديهم، وصار الدم في تلك الساعة هو المهيمن على المشهد والموقف بأكمله، وأن صاحبك شعبان بن بدرية لحقته طعنة نافذة من إحداها في الصدر، لفظ على إثرها أنفاسه الأخيرة في عربة الإسعاف وهي تأخذ طريقها إلى المستشفى القريبة، هل ستكتب ذلك، أو ستظل أسير فاجعتك فيه؟
كاتب روائي مصري وباحث وناقد مسرحي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.