وقف " جرامشي" ضد المتطيرين الباحثين في أوهام ذواتهم والمستغرقين في نرجسياتهم الصغيرة، كما وقف ضد الصنميين المتعنتين الذين يقرأون الثقافي من خلال السياسي فحسب.. بيد أنه اعتبر أن الموقف السياسي الصريح ذروة الشجاعة والشرف دون أن يكون سبباً للتعصب ورفضاً للآخر. ولهذه الأسباب مجتمعة وجد نفسه في تناقض مزدوج مع الفاشية الإيطالية المتعصبة التي كانت تقرأ كل شيء من خلال خرم إبرة الموقف القومي الشوفيني، وكذلك مع التطرف اليساري الاستاليني الذي كان يعتبر أن أي حوار مع الآخر الأيديولوجي خديعة وخيانة. وفي الحقيقة لم يكن انطونيو جرامشي وحيداً في هذه المساحة المبكرة من النضج الفكري والمسؤولية الممارسية، فقد تقاطع معه ايجاباً العديد من القامات الفكرية والثقافية التي لا يتسع المجال هنا لسرد مآثرها في المستويات العملية والثقافية. تلك السير الوجودية والمعرفية تظهر لنا مجدداً صحة وصدقية ما ذهب إليه هؤلاء.. فما زالت البشرية تعاني حتى يومنا هذا من محنة المثقف القابع في نرجسياته، والذي يقرأ العالم والآخرين من خلال خيمته الصغيرة.. كما أن هذا النوع من الإجرائيين المحدودين يتطاولون في ركوب الأوهام حد تعميم الرؤى والمقولات الذاتوية التي لا تمت بصلة إلى حقائق الأرض وعبرة السماء.. وهم بهذا المعنى أكثر ميلاً إلى الضلال وعتمة الانزواء والرخص العدمي لكل ما يحيط بهم.. كما أنهم أيسر انكساراً وتشظياً في أذواقهم وقابليتهم للاتحاد مع جلاديهم بطريقة أكروباتية تكثف السخرية الكوموتراجيدية. العرب ابتلوا بهذه النوعية من المثقفين الذين مادت بهم ثباتات الأرض ووضوح الحقائق فأصبحوا كالنعامة التي أرادت أن تطير ولكن دون جدوى فإذا بها تتكشف عن نفاق فحسب.. يقول المثل العربي" مثل النعامة لا طير ولا جمل". [email protected]