إن مستقبل العالم في التعليم أمر يصنع الناس من خلاله مستقبلهم ويصنعون حياتهم من واقعهم وتأسيساً على ماضيهم..فالمستقبل ابن للحاضر وحفيد للماضي..بيد أن للمستقبل خصائصه وصفاته المختلفة عن الحاضر والماضي.. الدكتور/ سعيد عبدالله حارب، هكذا بدأ بحثه في كتيبه الصغير الذي حمل مسمى موضوعنا هذا والذي يطرح من خلاله رؤية اشرافية لإصلاح التعليم وتطويره من جراء الواقع وتحديات المستقبل.. هذا البحث يحمل في طياته معالجة شافية للتحديات التربوية، القضية التي سنواجهها أو نتوقعها وكيفية التعامل معها وفق ما يناسبها..الدكتور حارب سلط الضوء على رؤى بعينها حيث أشار أنه بمقدار عنايتنا باستشراف هذا المستقبل أمر يحدد حياتنا القادمة وأضاف قائلاً: إذا كانت الأمم والدول تسعى إلى صياغة مستقبلها مع اختلاف في وجهة نظرها للمستقبل ومع ذلك فإنها تتفق على أن التعليم يصوغ المستقبل . إذ به يتم تكوين الإنسان برؤاه الفكرية ومهاراته الشخصية وأفكاره العلمية ومبادئه الأخلاقية ولايمكن لنا أن نتصور مجتمعاً بغير علم أو اهتمام بالتعليم، ومن هذا المنطلق تعالت الصيحات في العالم لتطوير التعليم وإعداده ليوائم المستقبل بكل توقعاته وتحدياته وغاياته. الأمر الذي من خلاله أقامت الدول مراكز للدراسات وأعدت البحوث والنظريات والخطط بهدف النهوض بتعليمها وأن الدول المتقدمة كان لها اهتمام كبير في ذلك. دراسة المستقبل ويرى الدكتور حارب أن دراسة المستقبل أو علم المستقبليات كما هو مصطلح عليه من أبرز الاهتمامات العلمية التي ظهرت خلال العقود الأخيرة. كون هذا العلم أصبح مؤثراً في صياغة رؤى التطور التي تسعى لها الدول. ولقد شهدت السنوات الأخيرة إنشاء عدد من المراكز العلمية ومؤسسات البحث العلمي المعنية بهذا الأمر. في حين أنجبت هذه السنين عدداً كبيراً من الدراسات الشاملة لعدد من جوانب الحياة، وكان للتعليم والتربية النصيب الأوفى لما في ذلك من اهتمام بتكوين الإنسان في جوانب حياته الفكرية والسلوكية، إذ لايمكن القيام بأي أعمال تطويرية في المناحي الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العلمية إلا بعد تكوين إنسان متعلم قادر على إحداث هذا التطوير ومن هنا تأتي أهمية العناية بدراسة المستقبل دراسة فذة تشخص الرؤى وتتوقع الاحداث وتخطط لبناء حياة جديدة قائمة على التعامل مع المتغيرات المحيطة بنا. فهي تدرس المستقبل القريب والبعيد من واقع تحدياته وتطرح البدائل لمعالجة تلك الرؤى بحلول لقضايا واقعية أو فرضيات مثالية طبقاً للحاجة والأهمية لصياغة المستقبل. أمة في خطر كما أن هذه الدول والمنظمات الدولية أولت جانب الاستشراف التربوي أهمية كبيرة وقدمت في ذلك دراسات وبحوثاً تعالج قضايا التعليم والتربية برؤى مستقبلية، ومن أشهر ذلك ماتم في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1983حين قامت لجنة شكلها وزير التعليم الأمريكي بنشر تقريرها حول إصلاح التعليم تحت عنوان«أمة في خطر» وكان لنشره أثر بارز في الاهتمام بمستقبل التعليم في الولايات المتحدة بحيث أوجد ذلك حالة من القلق لدى الشعب الأمريكي من خطورة ماوصل إليه مستوى التعليم مما دعا إلى إعداد الخطط والبرامج المعالجة للخلل في بنية التعليم الأمريكي ثم تبع ذلك أخر مشهور بتقرير«هانت» حاملاً اسم العمل بغية تحقيق التفوق خطة شاملة لتحسين مدارسنا وكلاهما يشيران إلى أهمية تطوير التعليم لمواجهة التحديات المستقبلية لتستطيع امريكا المحافظة على تفوقهاالسياسي والاقتصادي والعسكري.... إلخ. لماذا الاستشراف؟ ويقول حارب : إنه من المناسب مناقشة الإجابة على هذا السؤال إذ لايختلف اثنان على أهمية الاستشراف لكنه في ذاته ليس مطلباً بل هو استجابة لمطالب وأسباب عدة من أبرزها التحديدات التي تواجهها الدول والشعوب إذ أن دول العالم والدول العربية من بينها تمر بتحديات مختلفة في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والجوانب الاجتماعية أمور تتطلب مواكبتها والتعامل معها إذ لايكفي رفض هذه التحديات أو الهروب من مواجهتها بل الواقع يفرض التعامل معها بأسلوب يستطيع الاستفادة من ايجابياتها ويتجاوز تحدياتها المتمثلة في التالي: 1 التحديات السياسية: تشكل التحديات السياسية الداخلية والخارجية أبرز ما تواجهه الدول في الوقت الراهن إذ يشهد العالم تغييراً سياسياً واسعاً امتد صداه إلى معظم الدول والشعوب ولم تستطع أي دولة أن تتجنب هذه التحولات السياسية، فعلى الصعيد الداخلي ترتفع وتيرة الدعوة للمشاركة السياسية والعمل السياسي العام وقد صحب ذلك تحولات لدى العديد من الدول إذ استطاعت أن تتجاوب مع هذه التحولات من خلال الاصلاحات السياسية التي أدخلتها على مجتمعاتها وماصاحب ذلك من تعديلات دستورية وتشريعية وإصلاح للأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية وأن التربية هي المدخل الأساسي للتعامل مع هذه التحولات إذ من خلالها تستطيع الدول والشعوب تربية الإنسان تربية تتلاءم مع هذه التحولات وتجعله قادراً على التعامل الايجابي معها بحيث يستطيع توظيفها في خدمة مجتمعه وخدمة الآخرين. التحديات الاقتصادية: يشكل التحدي الاقتصادي لدول المنطقة أبرز التحديات التي ترتبط بالتعليم إذ يلاحظ أن التغيرات الاقتصادية التي شهدتها المنطقة أثرت بصورة مباشرة على العملية التعليمية فما زالت مصادر الدخل في دول المنطقة تعتمد على مصدر أحادي هو النفط في الغالب بما يتضمنه ذلك من عدم استقرار وثبات في أسعاره. مما يجعل اقتصاديات الدول مضطربة وغير مستقرة ولايوجد في المنظور القريب مصادر أخرى بديلة أو مساندة يمكن أن تحفظ للدول استقرارها الاقتصادي في عصر يشهد فيه العالم تحولات اقتصادية كبرى ناتجة عن آثر العولمة والانفتاح الاقتصادي وتحرير التجارة والاستثمار الدوليين ورفع الحواجز الجمركية وضعف المنتجات الوطنية مقابل الواردات الدولية واختلال الانفاق العام لصالح قوى الاستهلاك على حساب الانتاجية والاستثمار والادخار وضعف القطاع الصناعي على مواكبة التحديات العالمية ومقابل ذلك فإن الانفاق على التعليم مازال متدنياً على الرغم من زيادة الملتحقين بالتعليم مما أثر على المستوى العلمي وكفاءة مخرجات التعليم خاصة وأن المنطقة تشهد إقبالاً متزايداً في هذا المجال بكافة مراحل التعليم مما يجعل دول المنطقة أمام معضلة التوازن بين تلبية احتياجات مواطنيها وغيرهم من التعليم وبين ايراداتها العامة هذا إذا افترضنا أن إنتاج النفط وأسعاره ستبقى على ماهي عليه خلال العقدين القادمين.. أما المعضلة الثانية فهي مدى قدرة دول المنطقة على استيعاب مخرجات التعليم ومدى كفاءتهم لتحقيق متطلبات التنمية إذ لم يعد خافياً على أحد مدى القلق الذي يشعر به القائمون على مشروعات التنمية وبرامجها من عجز المؤسسات الحكومية عن استيعاب كافة الخريجين وتوفير فرص العمل لهم... الخ.. وهكذا فإن التحديات الاقتصادية لايمكن معالجتها إلا من خلال نظام تعليمي قادر على مواكبة المتطلبات الاقتصادية خاصة في ميدان الأعمال التي تحتاج إلى مهارة عالية. التحدي الاجتماعي والثقافي: شهدت المنطقة خلال العقود الأخيرة تحولات واسعة شملت كافة جوانب الحياة إذ أن السياسات التنموية التي سارت خلال تلك المرحلة أدت إلى تنمية اجتماعية وثقافية واسعة فقد ساعدت الموارد المالية والبشرية على توسعة رقعة التعليم حيث امتدت إلى مختلف المناطق ولاتكاد تخلو قرية أو مدينة من وجود مدرسة وقد إنعكس ذلك على المستوى الاجتماعي والثقافي خاصة في الفئات التي كانت محرومة من فرص التعليم كالنساء وسكان المناطق الريفية والنائية وكذلك اصحاب الاحتياجات الخاصة. والمتتبع لحركة الثقافة في المجتمعات العربية والخليجية خاصة أننا نجد أن الدافع وراء انتشار المؤسسات التعليمية في مراحلها الأولى والعليا والاقبال عليها هو تغيير النظرة الاجتماعية للتعليم خاصة بالنسبة للفئات التي كانت تحرم من فرص التعليم والمشاركة الاجتماعية، بينما أصبحت في الوقت الحاضر تأخذ نصيباً لايقل بل يفوق أحياناً عن نصيب الغني من التعليم وهكذا نجد التعليم قد أثر تأثيراً مباشراً في القيم الاجتماعية التي بدورها تدفع الإنسان إلى بذل المزيد من الجهد والطاقة في هذا الميدان، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى هذه القيمة الاجتماعية حتى يستطيع أن يمارس دوره الايجابي في المجتمع فإن التعليم هو الذي يحقق له هذه القيمة. إن استشراف مستقبل العمل التربوي ضرورة لإعادة اللحمة بين المجتمع ونظامه التعليمي حتى يستطيع المجتمع تجاوز مأزق التربية والتعليم الذي يعيشه وحتى تتباين قضاياه وحاجاته. التحدي العلمي والتقني: يشكل التحدي العلمي والتقني أبرز التحديات التي تواجه المنطقة، إذ أن أي تقدم لايمكن أن يتم بعيداً عن العلوم والتقنية التي أصبحت وتيرتها تزداد بسرعة ويصعب على كثير من الدول والشعوب ملاحقتها أو ردم الهوة بينها وبين الدول المتقدمة أي أن التقدم العلمي والتقني هو أبرز مستجدات هذه المرحلة على المسرح العالمي ويتلخص في التسارع المذهل للثورة العلمية والتقنية المعلوماتية وتطبيقاتها في البلدان الصناعية في شتى مناحي الحياة. وتعاظم الأهمية بأنشطة البحث العلمي وأنظمة البحث والتطوير وانعكاس هذا على الهياكل المهنية للقوى العاملة كماً وكيفاً وتأثيرها على معدلات البطالة والتوظيف في كافة الأنشطة الاقتصادية فضلاً عن تأثير التطورات العلمية والتقنية المتلاحقة لاسيما في مجال الاتصالات والمعلومات على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في جميع دول العالم. ولعل أكثر قطاعات المجتمع ارتباطاً بالتحديات العلمية والتقنية هو القطاع التعليمي الذي يقع على عاتقه بحكم وظائفه الأساسية المتمثلة في التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع والاسهام في مسيرة التقدم التقني من خلال إعداد وتأهيل الكوادر العلمية والمهنية من جهة ومن جهة ثانية من خلال تكثيف الجهود في مجالات البحث العلمي الأساسي والتطبيقي والقيام بدور أساسي في عمليات توطين التقنية في المجتمع من جهة أخرى. ..تحقيق الهدف المتعلق بالتطبيقات التقنية والمعلوماتية المتقدمة مرهون بشكل أساسي بإدخال تقنية المعلومات في النظام التعليمي وفي المجالين الإداري والتعليمي مما سيمثل دعامة أساسية لبناء المجتمع المتعلم القادر على مجاراة عصر التقنية والمعلومات واستثمار جوانبها الايجابية. والعرب اليوم يقفون أمام منعطفات تاريخ مهم من حضورهم الدولي إذ تشكل تقنية المعلومات والبحث العلمي مدخلاً أساسياً للحضور العالمي فاستخدام التقنية والبحث العلمي من المعايير الأساسية التي يقاس عليها موقع الدول والشعوب وعلينا أن نعرف أن العرب مازالوا متأخرين ولابد عليهم من اللحاق بهذا الركب في إطار التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث.