عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة أخرى في مجموعة حياة بلا باب ل" أحمد السلامي"
نشر في الجمهورية يوم 10 - 03 - 2007

حياة بلا باب هي المجموعة الشعرية الأولى للشاعر والناقد اليمني المتميز أحمد السلامي والتي صدرت عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في إحدى وتسعين صفحة وتضم نصوصاً كتبها الشاعر بين 1999 2001م ... متخلياً بذلك عن عدد كبير من النصوص التي أنجزها في رحلته مع الشعر منذ نهاية الثمانينيات.. والسلامي هو أحد الشعراء الذين انحازوا نهائياً إلى كتابة النص الجديد نافضاً يده من قصيدة الوزن التي كتب عبرها نفسه شقّا كبيراً من عمره الشعري.
ينقسم محتوى المجموعة إلى خمسة محاور:
الأول: (غرفة ضيقة بلا باب) والثاني: (صديق يطرق الباب غيابه)
ويضم كل منهما ثمانية نصوص
الثالث: مدينة مغلقة
ويشتمل على سبعة نصوص :
ومثله المحوران الرابع (تمويه اللذة) والخامس (تجاعيد) إذ ينطوي كل منها على سبعة نصوص ..
تتقاربُ عناوين المحاور الثلاثة الأولى في دلالاتها، كما تتقارب عوالم النصوص المنضوية تحتها.. من عالم الغرفة (غرفة ضيقة بلا باب) إلى عالم خارجي جزئي متصل بالعالم الداخلي للغرفة، ولساكن الغرفة في نفس الوقت (صديق يطرق الباب غيابه) إلى عالم خارجي يشكل الدائرة الأوسع التي يتحرك فيها هو وصديقه.. ويحتوي كذلك الغرفة وبابها.. (مدينة مغلقة)..
المحوران الرابع والخامس (تمويه اللذة) و(تجاعيد) يبدوان منفصلين عن عوالم العناوين الثلاثة السابقة. ولكنهما يتأسسان فيها وبها، ويشكلان امتداداً نفسياً وفنياً لها فهما يقدمان التنويع المكمل للسيرة البائسة..
دلالة العنوان (حياة بلا باب) تتعمق في دلالات عناوين المحاور الخمسة للمجموعة.. أما النصوص فتحتفل على نحو مدهش بيوميات إنسان مهمش في سكن مهمش يعيشان معاً على هامش الحياة الشاعر بحكم ظروفه .. وبفعل إرادته. فقد وجد نفسه منذ البداية وقبل المجيء إلى المدينة يتيم الأب والمكان، وعند انتقاله في منتصف ثمانينيات القرن الماضي من القرية إلى المدينة.. كانت صدمته بالمدينة كبيرة. فكانت تلذذه بالضياع في أزقة أحيائها القديمة أكبر.
ثم انشغل سنوات طويلة بمراقبة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ولكن من الهامش .. فحتى مشاركته في بعض اعتمالاتها ظلت دائماً هامشية.
وهذه الهامشية أبقت الشاعر يعيش حالة العزلة والغربة كما كان منذ جاء إلى المدينة التي حلم طويلاً بمغادرتها إلى مدينة تحتفل بمقدمه وتأويه.
في الفترة التي سبقت انكباب السلامي على كتابه شهادته على نفسه ودمار عالمه كان قد اختصر حلم الرحيل عن صنعاء إلى الحلم بغرفة تأويه هو ودفاتره ليتفرغ لكتابة حكايته مع المدينة الخائنة.
إذاً فقد قرر الشاعر التعايش مع حالة المدينة المغلقة والحياة في هامشها بوعي وإدراك كبيرين يسطر من خلالهما هذه الشهادة التي تدين العالم كلّه بأمكنته وكائناته:
نائماً في رأس الغريب
أنشدُ خبزاً لدماري ولا أكترث
أعفّرُ روحي بغبار البياض
سعيداً بخيار التعاسة
تجاعيد ، مقطع 8 ص (86)
تكتب قصائد المحاور الثلاثة الأولى من المجموعة من خلال رصد التفاصيل الصغيرة لحيوات متجاورة عاشها الشاعر في عزلة يشاركه فيها صديق (قد يكون صديقاً حقيقياً وقد يكون صديقاً مفترضاً) كسله وفراغه ونومه وعجزه وتمزق داخله بين عاداته والعادات الاجتماعية.
بين الاستسلام للوجود في الفراغ والثورة على الوجود الفارغ من أي محتوى وتكشف نصوص المحور الأول من المجموعة (غرفة ضيقة بلا جدران) أو (عن الجالس مع الضجيج اللازم لجلوسه) كما يقول عنوانها الفرعي عن محاولة الشاعر توثيق حياة غريبة عاشها، حياة الإنسان البسيط المثقف الواعي أيضاً بثقل وجوده الإنساني ومتطلبات هذا الوجود التي نقف عاجزين أمام تحقيقها.
يمر الوقت بارداً، كسولاً، عطناً وتتكرر أفعاله فينا كما تتكرر أفعالنا فيه ونحن نسخر من بلادته ونؤرخ لصغائرنا وردود أفعالنا العادية على قفاه.
من أول نص يبدأ الشاعر بتوثيق تلك الحياة المكررة:
نكون واقفين في الصالة
نتهيأ لدخول غرفنا
ينبغي ألاّ ينتظر أحدنا كلاماً
ندخل الغرف
مكتفين بالابتسامات مجاملة ص 7
ومن خلال تقنيات وأنساق لغوية متعددة الأساليب فيها السرد والمفارقة والصور المشهدية البارعة يبني السلامي أشكال توثيقه لمفردات اليومي المكرر الذي تتقابل فيه حالات الإنفعال العادي في حياة عادية لا يكسر إيقاعها أي جديد فالمشهد المكتوب في قصيدة (فراغ) يضعنا أمام سلسلة من المتقابلات اللفظية التي تجسد سلسلة الانفعالات العادية تلك، فأولئك الذين يتقاسمون الليل وتعب الشهيق سرعان ما تنقلبُ أمزجتهم فينزاح الوجود بشهقات لا ينقطع وميضها ولكن أفعالهم المختلفة لاجتراح السعادة تنكشف في النهاية حيث:
يظل الوقت ذكياً
يدفع بهم إلى الهاوية
ليغرقوا في النسيان أحلامهم
يبللون المطامح بلعاب الضجر
ويسندون ظهورهم إلى الجدران
ويتفرجون علي حياتهم وهي تمرّ
يفترشون الكآبة
كل يوم
بلا أمل في الأمل ...
( فراغ ص 9 10)
الشعور الطاغي بالعزلة وتواتر الهزائم أمام الحياة وكائناتها المجاورة للشاعر يبدو مهيمناً أساسياً على النصوص فالألفة مع الحياة وكائناتها تبدو صعبة جداً في ظل عادات الفراغ والركون إلى اللاشيء واجترار اليومي والعابر وترسخ الالتزام بالمسلك المحتج على الوجود الجماعي إنه طريق نسلكه ثم نعجز عن العودة منه حتى لو أردنا ذلك.
شاردون كقطط شبعانة
جالسون في جوسان خفي
المواء يتوالي بإلحاحه ..
وثم ألفة ناقصة :
أقفلت باب الجواب،
قلبت غرفة لينام الضيوف
كاملين بالوحشة
وحياء الشهيق ..
(ضيوف ص 16)
شعور العزلة عند أحمد السلامي ليس من انتاج حياة المدينة فهو متجذر في داخله وينعكس منه على الآخرين حتى أنه لينجذب نحو الأشخاص المشابهين حياة المدينة عمقت هذا الشعور تحول إلى مزاج وطبع إنه في الغالب امتداد لشعور الغربة الذي عبر عنه السلامي ذات يوم في قصيدة جميلة أسماها (ارتباك الغريب) وهو شعور ما زال يطارد السلامي رغم تخليه عن كثير من دواعيه ارتباك الغريب التي تصور انحياز الشاعر لكل غريب تربكه غربته تتطور لتصبح عزلة المهمش الذي يختنق في (حجرة ضيقة رغم أنها بلا جدران)! والغريب المرتبك هو نفس الغريب في نص (كوتشينة) مع تعديلات كانت ضرورية بحكم تعدد تجارب الحياة:
العالم مجرة ضيقة
حيث غريب يرمق انشغال دخان بالتكاثف (ص 19)
المفارقة الأهم في المجموعة التي تتمركز حول العزلة وما يشتقّ منها إن حياة العزلة التي يمكن أن يوفرها باب محكم الإغلاق ليست هي المحتفي بها فثمة خوف دائماً من باب ينفتح كأن انفتاح الباب ليس بالضرورة أن يكشف عالم البيت لداخله إنه باب يفتح في صدر ساكن البيت وعقله وإذاً فهي حياة يجبُ أن تنعم بعزلتها وهامشيتها دون باب يتوعد كل حين بالانفتاح بالأحرى دون محيط حميميّ نفتح له أبواب قلوبنا وعقولنا دون غريب يتلصص علي حريتنا وهذا الخوف سيتحول إلى هاجس مرعب يجدر بالشاعر ان يتخلص منه بكتابته وهذا ما حدث بالفعل فثمة إشارة توحي بذلك في قصيدة (كسل):
الظهيرة معطلة، وباب الغرفة مفتوح، يراقب التصاق أجزائك بالفراش،
اليد تتثاءب، تداعب ذيل خيبة البارحة تشكوا نمْلاً إلى صمت زحفه ، وأنت ، لا تملك سوى صوتك، وموسيقى خفية، ربما أنغامُ تحت جلدك، يبعثها خدرٌ يتفشى
عزفاً على العروق
يظل الباب مفتوحاً، لأن صوتك الخفيف بلا يد ليغلقه
ومع ذلك
تحاول غلقه بصوتك، فتربك الخشب جيداً
بأفكارك التي تزينت ..
ونامت على العتبة، مفترق يغري بمتعة التثاؤب قطط الأفكار الساهرة
كسل ص30 31
ولكن الشاعر حين يجرب كسر هذا الحاجز يكتشف أن حضوره لا يتحقق ثمة غياب إنه يغيب عن نفسه أو يغيب الآخر عنه.
أملأ كأسي بطيفك
واعرف أنك لن تجيء
لكني أسمع طرقاً على الباب
افتحه ليدخل غيابك.
(غيابك ص39)
حالة الفقد الصادمة التي تعقب انفتاح الباب تتعدد أساليب التعبير عنها في عدد من نصوص المجموعة، إنها تيمة من تيماتها وثيقة الصلة بسائر مادتها.
كم باب فتحت ولم أجد أحدا خلفه (تجاعيد المقطع 3ص80)
الغرف ستغلق أبوابها علي الوحشة (ألفة ص25)
وتبدو الابواب مخاتلة ومتواطئة مع الوحشة والعزلة
البهجة في كأسي
لا باب ليمر المديح
لولد
يسيل بهياً
في الدهشة (ولد ص52)
كما تبدو أحياناً غير مخلصة وغير آمنة أو مؤتمنة
باب الغرفة لا يضمن لك نوماً حتي الظهيرة. (انهزام ص34)
العلاقة المختلة بالأبواب تنزاح من اختلال بين قدرة الشاعر على الكتابة وانهزامه دائماً أمام فرص الكلام التي قد تكون مفاتيح لفرص في الحياة فكم من مناسبة كانت مؤاتية للحصول على المكاسب أحبطها خوف الشاعر من الكلام ..... الصمت.
أيضا باب مغلق تمر الحياة خلفه ولا نراها:
فكأن الحياة مرت في الصباح وأنا نائم فلم أرها
لكأن قلبي في يدي سلسة مفاتيح ..
وإلاّ فما سببُ هذا الارتجاف من انفتاح أبواب الكلام ..
في أفواه الأقارب ..
تجاعيد (مقطع 1 ص78-79)
إن نص (فزع) ص69 النص الأول في محور المجموعة الخامسة (تجاعيد) أو (الحياة التي مرت في الصباح وأنا نائم) وهو النص الذي اختاره الشاعر لغلاف المجموعة الأخير إلي جوار صورة فوتوغرافية له أمام باب خشبيّ عادي جعلتها صدفة الالتقاط تنقسم إلي قسمين (الصورة ومقلوبها).
هذا النص يقدم لنا الذروة المتوترة لعلاقة الشاعر بالباب ودلالة هذه العلاقة التي تنطلق من لوحة الغلاف الأول نفس الصورة مع اسم الشاعر وعنوان المجموعة (حياة بلا باب).
لتمر عبر نصوص المجموعة كلها حتى تصل إلى الغلاف الأخير:
هكذا...
كمن تجمّد
بانتظار صوت الطلقة
أو كالذي لمرات عديدة
يكتم تنفسّه حد الاختناق
توقع لحظة ظهور الوحش
في فيلم مرعبٍ :
أتترقبُ فزع انفتاح الباب
من حالة الخوف .. والفزع.. إزاء الأبواب ومن ارتباك الأصابع وفشل فرص التعارف والتشوش والضياع في غبار الملل والسأم يكتشف الشاعر أن ظلام غربته وعزلته وغيابه ظلام جوهري وأنه يرتطم بجدران راكدة.
***
في (تمويه اللذة) و(تجاعيد). تتناسج سيرة الحب والألم والخيبة والانكسارات والخسارات الفادحة بموضوعتي العزلة والغربة و(تيمة الخوف من الأبواب) اللتين تلوحان خلفيّة للمشاهد تتأسس عليها وبها فلا تكاد تتكشف ظلامات العزلة والغربة إلاّ ليشتعل السرد والصور المشهدية بعذابات الحب وخيباته ومفارقات تحايل الكائنات البشرية علي بؤسها وكبتها.
وكذلك تأمل الخيبات التي تعقب كل فعل إنساني في الغالب وثمة شقاء نصنعه لأنفسنا حين لا نكتفي بالشقاء المتوفر لنا منذ الولادة. السيرة والسرد في هذين المحورين أكثر وضوحاً. والحالة الشعرية أكثر سيطرة علي الشاعر فهي تنسرد متدافعة من الذاكرة مبرزة أن الشاعر حتي وهو يذهب في اتجاه الذاتي والمقصي في عالمه الخاص جداً وفي رحلته التي هو أجدر بامتلاكها لوحده كان دائماً يقع تحت مهيمن الآخرين.. الحبيبة / الأنثى الأسرة الأقارب.. الخ.
يلاحقون صمتي بحبال عائلية
كلما غربت عنهم أشرقوا بالبلاهة .. (العائلة ص72)
ومن بئر الذاكرة يلتقط الشاعر موضوعات مألوفة في مجتمعنا وتقاليدنا يقع بعضها في باب المسكوت عنه ( المثلية مثلاً) غير أنها هنا تنبني علي مفارقة الفشل إزاء الطريق الطبيعي:
الحب القديم الذي في المدرسة
للبنت الوحيدة في الفصل
الحب الجماعي ..
المظاهرة المكتومة من أجلك
تفرقت بهدوء
رحنا نحبُ أصدقاءنا
الذين نجرؤ علي مخاطبتهم
وبالذات
صديقنا الوسيم
الذي اكتشفنا بالصدفة
أننا جميعاً نحبّه
(بديل ص55-56)
ومن نفس البئر بئر الذاكرة يلتقط الشاعر موضوعاً آخر مألوفاً إنه الحب الأول الذي غالباً ما تشابه الخيبات فيه حيث المحب قليل الحيلة والحبيبة لا رأي لها والبقية معروفة ولكن القصة العادية تنكتبُ بغنائية شاحبة أضفت عليها مرارة السخرية والمفارقات اللغوية والكثير من الشجن الذي خلق فيها حالة شعرية خاصة وبإتقان فني أكثر تنكتب قصيدة (ارتياب) التي تتخلص من غنائية سابقتها لتستفيد أكثر من مفارقة التضاد ومن تطور حالة الأنثى من زميلة يتنافس الجميع علي حبها بوصفها أول اكتشاف أنثوي لأعينهم إلي الأنثى الحبيبة التي سرعان ما تبيع الحب بالمال وتترك الحبيب وتتزوج بغيره إلي أنثي ثالثة أكثر تركيباً تنتقل بين أحضان الرجال بلا حب ولا طمع في الحب:
أحدثك كثيراً عن نفسك
نفسك التي تجهلينها
فراشة مجنونة
تطيرين من رجل لآخر
بلا هدف سوي رسم ابتسامة غريبة
أحدثك عن نفسي
نفسي التي أجهلها
طائرٌ يرتاب كل الأغصان
أجلس معك و في يدي كلمة
أضعها أمامك علي الطاولة
فتطير ..
(ارتياب ص58)
علي هذا النحو تتطور الأنثى في ذاكرة الشاعر وتتطور معها علاقته بها في بقية قصائد هذا المحور ليبدو هو الخاسر في كل مرّة وهذا يفسر إلي حد ما تبدّي الفعل الجنسي المشترك بين رجل و امرأة في قصيدة (انطفاء) خاتمة قصائد المحور الرابع وكأنه فعل انتقامي يقع من الذكر علي الأنثى، فهي (ترتعش كالدجاجة عند الذبح) وهي (تبرد كأنها خارجة للتو من ماء نهر ثلجي) هل المقصود هنا برودة الموت؟
ولكن الشاعر في سيرته عاني كثير من الحياة والكائنات التي تجاوره فيها حتي لتبدو سيرته هذه نوعاً من قلب الداخل المكبوت إلي الخارج لتفوح الدفائن، دفائن القهر والألم... والانكسارات ..
خلع نفسه عن ساق العالم:
جوربٌ مقلوب
يتنفس ذرّات شؤونه
يشهق أناه ليزفر نتانة القطيع.
(ذات ص70)
إن محاولة الشاعر رسم قبح الحياة وفضح كائناتها ينكتب بعيدا عن أي صراخ أيديولوجي وهذا من أهم سمات الكتابة الجديدة - الكتابة الشهادة ..
***
فيما سبق مرت إشارات عابرة إلي بعض الجوانب الفنية لمجموعة (حياة بلا باب) التي يبدو السرد أهم سماتها. وبقي أن أشير إلي أن السلامي قطع شوطاً كبيراً في مفارقة اللغة المجازية حتي مكونات الصورة عنده يحاول دائماً تركيبها من عناصر لم يبتذلها الاستعمال فإذا تجاوزنا بعض البناءات المجازية مثل
(أتمشى في رأسي) و (أكلوا أصابعهم وناموا) وغيرها فإن لغة السلامي تبدو طازجة وطرية ..ناهيك عن سهولتها واستسلامها للبساطة التي أبعدتها عن التصنع والركاكة والتعقيد.
في نص بعنوان (حين أعبر الشارع) لا يكون العنوان عتبة للنص أو نصاً موازياً له ولكنه جزء من النص فهو أول شيء فيه هكذا ينكتب النص:
حين أعبر الشارع
أقطعه بمقص رجليَّ
لكنه فجأة يلتئم تحت العجلات
ينبغي أن أتجاهل ظلي
ظلي الذي يتوقف ليلتقط
أنيناً مرمياً علي الإسفلت
ص77
أخيراً فإنني أعتقد أن الشاعر أحمد السلامي في منحاه الكتابي بمقدار ما يستثمر توجهات المرحلة الجديدة في الكتابة التي تنتقل من الخطاب المتعدد الدلالة إلى خطاب الشهادة والمعايشة فإنه يستجيب لتوجهات داخله فثمة شخصانية تتحقق في ما يكتبه السلامي حتى لو أسقطنا مؤثرات المرحلة وتوجهاتها مع أن المعروف عن هذا الشاعر أنه يعد من بين قليلين في المشهد الإبداعي اليمني التماساً للجديد المتجاوز وانفتاحاً على كل هواء مختلف.
وانشغاله بتجربته يسير بالتوازي مع انشغاله بالتجارب الأخرى في المشهد الثقافي اليمني والعربي ولعل تناولاته النقدية لبعض النتاجات الإبداعية وجوانب من الحراك الثقافي لا تنفصل عن توجهاته الإبداعية بل تكملها وتذيلُ عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.