كان القمر يحبو على صدر السماء التي بدت خالية من السحائب والنجوم وكأنها قد غسلت تماماً .. وكان السفح المنبسط أمام ناظري «الشيخ علي » يبدو سابحاً في الهدوء ، وقد أكسبه الضوء الفضي ، الذي سفحه القمر فتبعثر هنا وهناك وتخلل الأشجار المتراصة روعة لم ينتبه لها الشيخ الذي راح يستعيد ذكرى عزيزة غالية. «.. قريباً يهل العيد . في كل عيد كان أحمد ابن الشيخ علي يشارك أهالي القرية الصغيرة أفراحهم . كان يملؤه فرحاً وبهجة ، ولم يكن في هذه القرية من لا يحب أحمد ويحترمه ويكن له وداً عميقاً : فلقد كان زينة شبابها ومن خيرتهم.. ثم تلاشى كل شيء فجأة ولم يعد في القرية من أثر لأحمد.. .. تلاشى كل شيء . وها هو ذا عيد آخر ، قريباً سيهل ، ولامن أثر لخيرة الشباب» . ما أقسى الذكرى على قلب الشيخ . كان يفخر بابنه أحمد ويفاخر به أهالي القرية كلها ، وأبناء العم ، وكان يعد العدة لتزويجه من ابنة العم بعد العيد مباشرة . ولم يكن الشيخ يدري أن ابنه الوحيد كان يفكر في أمور أخرى ، غير الزواج ، كانت تشغل باله وتأخذ عليه كل تفكيره .. كان ذلك قبل عام مضى. في أحد أيام شهر رمضان ، وقبل أن يهل العيد بأيام معدودات أتى أحمد يسعى إلى حيث قرفص الشيخ في بقعته المختارة بأعلى السفح ، وأسر اليه بما انتواه وعقد عليه العزم. فغر الشخ فاه دهشة . لم يصدق ما سمعته أذناه . حاول أن يثني ابنه عما اعتزم .. تارة يسترضيه ، وأخرى يهدده ، بقصد أن يستبقيه بقربه. قال الشيخ : - .. ولكننا في حاجة إليك يابني .. أنا في حاجة إليك ، والقرية كلها تود أن تفرح بك في زواجك ، فهو عيدها. ورد الإبن : انني يا أبتاه لا أريد شيئاً من هذا كله . ان ورائي ما أوردته قبل ذلك . أن ورائي واجباً علي أن أقوم به خير قيام. كان العزم يشع من عينيه ، غير أن الوالد الملهوف قال : - إن كثيرين غيرك سيقومون بأداء الواجب فما عليك أنت من الذهاب . فهل خلت القرية إلا منك ؟! بالعزم نفسه رد الابن : - أولست مثلهم يا أبي ، أولئك الذين سيؤدون الواجب ؟ .. أولست بقادر على النضال ضد المعتدي الأثيم ، وأتحمل مسؤوليتي في الدفاع عن هذه الأرض كما يتحملها غيري من المناضلين؟! لم يكن الشيخ لينكر ما يقوله ابنه .. بل إنه في قرارة نفسه ، يرغب في أن يذهب إلى أرض المعركة ليؤدي واجبه المقدس .. بيد أن أبوته ولهفته أن يبقى ابنه الوحيد بجانبه ، ليفرح ، في شيخوخته ، بزواجه من ابنة عمه ، شكلا صراعاً عنيفاً مع إيمانه بأداء الواجب .. تغلبت العاطفة ، في تلك اللحظة ، على ما عداها ، الأمر الذي دفع به لا إرادياً إلى مراجعة ابنه ، فقال بصوت باك مستعطف : .. وهذه القطعة الصغيرة من الأرض .. من سيرعاها ، وينظم أدارتها ، فإنني قد بلغت من العمر عتيا، ولم يعد في مقدوري كما تعلم أن اعمل كما تعمل أنت وغيرك من الشباب .! غير أن أحمد كان يدرك حقيقة الموقف ، إنه يعرف والده الشيخ حق المعرفة، فقال له : - ليس هذا بسبب يدعو للبقاء فلا تحاول يا أبتاه التأثير علي بالعاطفة . ولكن ثق بأنني أحبك وأقدرك وأدرك حقيقة شعورك الوطني ، مهما طغت عليه العاطفة وتمكنت من تغطيته في هذه اللحظة كأب له إبن وحيد على وشك الزواج فيتركه ويذهب بعيداً. .. إن هذا الحب وهذا التقدير ، نفسهما ، هما اللذان دفعانني إلى تأدية واجبي تجاه وطني، دفعاً قوياً. لم يحر الشيخ جواباً .إنه يعرف تماماً قوة تصميم وإرادة ابنه وعزيمته ، فصمت في الأخير ، مربتاً على كتفه ، ضامه إلى صدره بحنان. ورحل أحمد ومعه سلاحه. رحل ، ورحلت معه البهجة والمرح من قلب الشيخ. . . . يا للذكرى الضائعة الخالدة في سجل النضال. وتململ الشيخ علي في مجلسه هينهة ، وكأن طيف الغائب قد مر بخاطره ، واقضت ذكراه مضجعه وهزته شوقاً إليه .. ثم عاد يغرق في الذكريات بينما كان القمر يبدو حزيناً .. كأنه يبتسم ابتسامة تبللها الدموع. ... مر اسبوع وأكثر ، ولا خبر من أحمد ولا من أتى يقول خبراً عنه ، كانت أيام الشيخ كلها يلفها الصمت والسكون. ثم جاء الخبر ، بعد انتهاء العيد الذي لم يحضره الغائب. جاء الرسول إلى حيث كان الشيخ فوقف أمامه لايريم. وتحرك الشيخ نحوه، وكأنه أحس بما سيسر به إليه ، وبلهفة أبوية بادره : - أين .. أين أحمد ؟ ووصل إليه صوت الرجل وكأنه يأتي من اغوار سحيقة : تمهل.. تمهل يا عم ! - لمه .. لمه .. لم يأت معك .. هل .. هل مات ..؟ لم يرد الرسول فوراً ، غير أنه أمسك شيئاً ملفوفاً بشال عتيق وناوله الشيخ .. ومضت برهة غاب خلالها القمر خلف سحابة معتمة غطت وجهه لم يلبث بعدها ان عاد يشرق بالنور. وفهم الشيخ كل شيء . ولم ينبس ببنت شفة . ومرت لحظات كأنها دهر تهيأ الشيخ بعدها للتحرك ، وصدى كلمات الرسول يرن في أذنه : - أجل يا عماه .. لقد مات أحمد .. استشهد ، ولكن بعد أن أدى واجبه . لو رأيته يا عماه ، وهو يصلي أعداء الوطن ناراً حامية، لحمدت السماء أن وهبتك ابناً مناضلاً ، باراً بوطنه ، مدافعاً عن أرضه ببسالة. وتترقرق الدموع في مآقي الشيخ وهو يتمتم : - آه .. لو أنه أتى .. لو أنه عاد لنفرح به جميعاً ! ويصك سمعه هاتف أزلي : - (لقد فرح به الوطن كله يارجل ! .. لقد عقد ابنك حفلة زواجه على أرض المعركة بينما كان يصول ويجول ، لاتبك يا رجل . اننا . كلنا جنود في المعركة ، حتى برغم الظروف التي تبعد بعضنا عن المشاركة بحمل السلاح ، فكل واحد يجب أن يناضل بسلاحه في مجاله وحسب قدراته وامكاناته الذاتية ضد العدو .. ومن أجل الوطن..) ويختلط الهاتف بصوت الرسول المدوي ،. مجلجلاً ، في أذني الشيخ .. يملأ سماء القرية كلها .. ، وهو يعيد على مسمعيه وصية الشهيد : (.. خذ بندقيتي هذه ، خذها لأبي وأهلي .. بل لكم جميعاً ، فهي هديتي اليكم في يوم العيد ، والى كل مناضل فوق هذه الأرض الطيبة .. خذها ، فلعل أحداً منكم بحاجتها ليكمل بها دوري الذي بدأته ، ويعود بها محارباً ، صامداً في وجه الشر والعدوان..).