لا تختبئوا وراء الحوثي.. أمريكا تكشف عن وصول أسلحة ضخمة للمليشيات في اليمن    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    نقل منصات إطلاق الصواريخ الحوثية استعدادًا للحرب واندلاع مواجهات شرسة مع الأهالي ومقتل قيادي من القوة الصاروخية    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    الحوثيون يواصلون افتعال أزمة الغاز بمحافظتي إب والضالع تمهيد لرفع الأسعار إلى 9 آلاف ريال    طعن مواطن حتى الموت على أيدي مدمن مخدرات جنوب غربي اليمن.. وأسرة الجاني تتخذ إجراء عاجل بشأنه    المبادرة المُطَالِبة بالكشف عن قحطان تثمن استجابة الشرعية وتحذر من الانسياق وراء رغبات الحوثي    قائد الحراك التهامي السلمي يعقد لقاء مع المعهد الديمقراطي الأمريكي لبحث آفاق السلام    الحوثيون يواصلون حملة اعتقال الطلاب الفارين من المراكز الصيفية في ذمار    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    تحميل لملس والوليدي إنهيار خدمة كهرباء عدن مغالطة مفضوحة    الدولة العميقة ومن يدعمها هدفهم إضعاف الإنتقالي والمكاسب الجنوبية    اعضاء مجلس السابع من ابريل لا خوف عليهم ويعيشون في مأمن من تقلبات الدهر    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    بيان عاجل لإدارة أمن عدن بشأن الاحتجاجات الغاضبة والمدرعات تطارد المحتجين (فيديو)    انفجار الوضع في عدن وقوات الانتقالي تخرج إلى الشوارع وتطلق النار لتفريق المظاهرات وهذا ما يحدث الآن "شاهد"    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ليفربول يسقط في فخ التعادل امام استون فيلا    "نكل بالحوثيين وادخل الرعب في قلوبهم"..الوية العمالقة تشيد ببطل يمني قتل 20 حوثيا لوحده    استعدادات حوثية للاستيلاء على 4 مليار دولار من ودائع المواطنين في البنوك بصنعاء    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    سيف العدالة يرتفع: قصاص القاتل يزلزل حضرموت    اليمن تجدد رفضها لسياسة الانحياز والتستر على مخططات الاحتلال الإسرائيلي    برشلونة يتخطى سوسيداد ويخطف وصافة الليغا    البوم    غروندبرغ يحيط مجلس الأمن من عدن ويعبر عن قلقه إزاء التصعيد الحوثي تجاه مارب    انخفاض أسعار الذهب إلى 2354.77 دولار للأوقية    السفيرة الفرنسية: علينا التعامل مع الملف اليمني بتواضع وحذر لأن الوضع معقد للغاية مميز    السعودية: هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    الاكاديمية العربية للعلوم الادارية تكرم «كاك بنك» كونه احد الرعاة الرئيسين للملتقى الاول للموارد البشرية والتدريب    صراع الكبار النووي المميت من أوكرانيا لباب المندب (1-3)    دموع ''صنعاء القديمة''    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    من أراد الخلافة يقيمها في بلده: ألمانيا تهدد بسحب الجنسية من إخوان المسلمين    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    تشافي: أخطأت في هذا الأمر.. ومصيرنا بأيدينا    ميلان يكمل عقد رباعي السوبر الإيطالي    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    رسميًا: تأكد غياب بطل السباحة التونسي أيوب الحفناوي عن أولمبياد باريس 2024 بسبب الإصابة.    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    بدء اعمال مخيّم المشروع الطبي التطوعي لجراحة المفاصل ومضاعفات الكسور بهيئة مستشفى سيئون    المركز الوطني لعلاج الأورام حضرموت الوادي والصحراء يحتفل باليوم العالمي للتمريض ..    وفاة أربع فتيات من أسرة واحدة غرقا في محافظة إب    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قارورة البيرة اولاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جعل يافع صحراء وحصد أرواح الأسرة الواحدة
ماء النازعة

- بندقية أشعلت الخلافات العائلية بين السلاطين لأكثر من (80) عاماً
كان ذلك قبل سبعين عاماً:
أما صراعهم التافه فلاتبدوا له نهاية «ميلتون».
أو من التراشق بالكلمات إلى إستلال الخناجر «هرنجتون»
في مطلع 1934 تسلمت عدة رزم من الوثائق، زرية المنظر يمكن أن نطلق عليها مجازاً ملفات.. وقد طلب مني دراسة النزاع القائم بين السلطان الفضلي وسلطان يافع السفلى، وتحوي تلك الرزم من الأوراق في الأساس رسائل باللغة العربية وترجمة لها باللغة الإنجليزية، كتب على الوجه الخلفي منها ملاحظات موجزة، كتبت بالمداد الأسود أو الأزرق أو الأحمر وبالقلم الرصاص أحياناً حسبما أملته أذواق كتاب تلك الملاحظات حين كتابتها.. كانت تلك الملفات مكومة في إحدى الزوايا في حالة رثة وقد عمل فيها التآكل والتمزق عمله لكثرة ماتناولتها الأيدي قبل أن تسلمها.
وإني إذ أورد هذه التفاصيل ليس بقصد التذمر ولكن لأظهر أن موضوع دراسة هذه الملفات هو موضوع شائك.
فلا تزيد الفترة التي تغطيها هذه الملفات عن عشر سنوات فقط فيما بينهما وثائق يعود عهدها إلى ثمانين سنة خلت، وفي هذا يكمن سر جسامة المسألة وكذا الدليل على الدرجة الحضارية التي بلغها هذا الجزء من جزيرة العرب.
لدينا في أوروبا تصور حول المسائل الشائكة فأمثالنا ممن يعملون في دائرة الحكومة البريطانية يعمدون إلى تقييم أهمية المسألة بكمية الوثائق المتعلقة بها.
خذ على سبيل المثال نهر النيل وأهميته بالنسبة لمصر، فكر بمختلف الدول والشعوب التي يمر بها النيل قبل أن يصل إلى مصر.
ما من شك في أن إرشيف مكاتب الخارجية والمستعمرات ولن أقول مكاتب السفارات في الخارج لديهم عدد من الملفات المركونة تتعلق بمسألة، ماء النيل ولكني لا أعتقد أن هناك دولة أخرى في العالم كله لديها عدد من الملفات تتعلق بمسألة صغيرة مثل مالدى مكتب المندوب السامي في عدن والخاصة بمشكلة المياه بين السلطان الفضلي وقبائل يافع السفلى فمشكلة قناة الماء «بالطبع مشكلة ذات حس سياسي وهي عند العرب السياسة غريزة عملوا على تطويرها إلى درجة تبعث على الدهشة.
وقد أدركت قبائل يافع السفلى وكذا سلاطين الفضلي جيلاً بعد جيل أدركوا أن هذه القناة التي تمر في منطقة تابعة لهذا إلى منطقة تابعة لذاك أنها مسألة مثيرة للخلافات القبلية من الدرجة الأولى.
فقد تم حفر تلك القناة قبل تسعين أو ثمانين سنة وعلى إفتراض أنهم لم يأخذوا المسألة مأخذ الجد آنذاك فيما يتعلق بالقناة فإنهم في بادئ الأمر أخذوها بحسن نية وبعفوية.
إلا أنهم أدركوا فيما بعد أنه لايمكن أن تكون هناك شرعية معترف بها مالم تكن هناك إتفاقيات مكتوبة تتعلق بهذا الأمر.
وعليه تم إبرام معاهدة عام 1872.
يتحتم عليّ في البداية أن أصف جغرافية المنطقة.
فيافع السلفى وسلطنة الفضلي هما من كبريات الولايات في القسم الغربي من المحميات.
فبلاد الفضلي منطقة ساحلية تمتد مسافة طويلة بمحاذاة الساحل إبتداءً من مشارف عدن وخلفها أو خلف الجانب الشرقي منها تقع جبال يافع السلفى وتنبع الأنهار التي تسقي واحات أبين في بلاد الفضلي من جبال يافع.
ربما كان ذلك قبل قرن من الزمن عندما رأى مهندس عبقري دون شك من آل الفضلي رأى أنه بشق قناة من نهر بنا في أراضي يافع السلفى يمكن إيصال الماء لري المناطق المرتفعة من الواحات.
تلك القناة أطلق عليها إسم «النازعة» ولم تكن القناة مصدراً للري فحسب بل كانت على الدوام مصدراً للنزاع والصلح والحرب المضادة منذ ذلك الحين.
وقد نصت إتفاقية عام 1872 على أن يسمح لمنطقة الفضلي بالتزود بمياه الري مقابل دفع مبلغاً من المال، ومامن شك بأن آل الفضلي كانوا بحاجة إلى الماء لري المحاصيل وكان حكام يافع السفلى يدركون شرعية ذلك.
ويظهر تاريخ القضية أن الحل الحقيقي والمقنع للمسألة يكمن في السماح للفضلي بالحصول على الماء ويحول في نفس الوقت دون أن يحصل أي من الطرفين على سبب يمكنه من المطالبة بالمزيد بين الحين والآخر.
الأمر الذي يسبب إرتفاع أصواتهما بالشجار بينهما ويحاول الطرفان بين الحين والآخر إقناع المندوب السامي في عدن بأن يتولى حسم الأمر.
وكما تظهر الملفات فإن المندوب السامي قد وافق على القيام بدور الوسيط على مضض وتمكن لمرة أو لمرتين من أن يحسم الأمر بصورة طيبة.
وبما أني حديث عهد بالمشكلة فقد أعتقدت بأن الأمر لن يخلو من لطف ومتعة بالنسبة لي وللأطراف المتنازعة.
لهذا الغرض قمت أنا وزوجتي بزيارة قصيرة إلى بلاد الفضلي كان ذلك خلال هدنة مدتها 18 شهراً ولكن لا أحد كان يأخذ تلك المعاهدة بشكل جدي.. فقد أستمرت الغارات لنهب المواشي والجمال، ومن حين لآخر كانت تقع حوادث القتل في المنطقة المحيطة بحصن حلمه وهو تل يقع على حدود الطرفين.
ويبدو حصن حلمه على الخارطة كما لو كان دمعة تنحدر من يافع السفلى إلى قناة المياه المعكرة في أبين وهو بالفعل كذلك وكما سنرى فإنها مثلت في مناسبات كثيرة دور الدمعة المنحدرة.
حالما وصلنا إلى قصر السلطان الفضلي في شقرة صعدنا إلى غرفة جيدة التهوية حيث قابلنا السلطان وكان قد أستيقظ لتوه من نوم القيلولة أخبرنا السلطان أنه لم يكن يتوقع وصولنا قبل صباح الغد.. وسرعان ما أنشغل الجميع للإحتفال بوصولنا.
وبينما كنا نتناول الشاي مع السلطان دخل إلى الغرفة ابنه الأكبر صالح كان شاباً حسن الطلعة في التاسعة عشرة أو العشرين من العمر ذو وجه صارم تعبيري التقاطيع.
بدا أن أباه حذر منه أو خائف وعرفت فيما بعد أنهما ليسا على وفاق لم يكن عليه من الثياب صالح غير مئزر حول خاصرته فوقه يلتف حزام الشكة وجنبيه وتلتف حول رأسه عصابة مصبوغة بالنيلة.
وعلى عكس من أبيه وأخيه الأصغر حسين فإن جسده كله مصبوغاً بالنيلة.
وبالمقارنة فليس لدى السلطان الفضلي وهو في شيخوخته مالدى أبنائه من قوة الشكيمة، فهو كرجل مسئول لم يكن موفقاً على الإطلاق.
فهو السلطان ناعم الوجه أمرد تقريباً ذو شعر أشيب يميل إلى التجعد وقد لفت عمامته حول رأسه فبدت وكأنها إكليلاً وقد ذكرني منظره بامبراطور روماني يمكن القول أنه في الستينات من عمره ليس في لبسه ولا في مظهره شيء من الأناقة ومرة أخرى أنه كان على النقيض تماماً من أبنائه.
وبعد أن تبادلنا الحديث مع العائلة السلطانية تركونا حتى نهيئ أنفسنا للإقامة.
كان مقر إقامتنا نظيفاً، جيد التهوية مريحاً، الحمام أيضاً كان كما أردناه أن يكون ذو أرضية إسمنتية نظيفة وفيه زير ضخم مليء بالماء البارد الذي أحدث في جسمي رعشة لذيذة وأنا أصبه على جسدي.
لدى عودتنا إلى القصر بعد أن قمنا بجولة قصيرة في المدينة وجدنا السلطان منهمكاً بعد النقود التي في خزينته، كان يقتعد الأرض بجانب سرير نومه حيث يحتفظ تحته بصندوق معدني بني اللون هو خزينته السلطانية.
وقد أكتشفت فيما بعد أنه حيثما يكون السلطان يكون ذلك الصندوق فقد جاء به معه إلى عدن كلما كنت آراه جالساً في التاكسي أرى صندوقه محشوراً بين ساقيه.. طلب منا السلطان أن نوقع في دفتر الزوار والذي حوى بين مايحوي من توقيعات توقيعين لإسمين انجليزي واخبرت زوجتي أنها ليست أول سيدة تزور شقره، إذ أن المسز فوول قرينة المندوب السامي السابق قد وصلت إلى شقره قبلنا وقبل ذلك بنحو 40 عاماً وصلت سيدة انجليزية بصحبة زوجها هما السيد والسيدة بينت وقد أمضوا عدة أيام في الجبال كان ذلك عام 1897 وفي كتابها جنوب الجزيرة العربية أوردت السيدة بينت وصفاً لرحلتهما تلك.. وما كان أشبه رحلتهما تلك برحلتنا هذه لولا أن رحلتهما بدأت من الاتجاه المعاكس فقد أنتهت رحلتهما إلى شقرة من حيث بدأنا نحن بعد أن تناولنا طعام الافطار صباح اليوم التالي بدأنا السلطان وأنا محادثات عمل استمرت ثلاث ساعات أو أكثر تخللتها مقاطعات.. فإن موضوع حديثنا بالطبع هو مشاكل الفضلي مع يافع السفلى ورغم ماتخلل المحادثات كما ساسردها لكم بكل أمانة فإن المحادثة قد قطعت خطوات إلى الأمام رغم المقاطعة المتحدة كما أسلفت الذكر فبعد كل بضعة دقائق يدخل أحد الأشخاص والسلطان لايريد أن يتكلم بحضور أحد.. وهو لايستطيع أن يصرفهم أيضاً لذا لم نكن بحاجة لاستخدام اللباقة.
وعندما لايدخل علينا أحد فإن السلطان نفسه يترك الغرفة لمتابعة بعض الأمور في غرفة المؤن وإذا لم يذهب إلى هناك فإنه يطل برأسه من النافذة ليصرخ بشخص ما في الخارج أو يجيب على نداء شخص ما يناديه وحين يكف عن الاتيان بهذه الحركة أو تلك فإنه لايبدئ من الاهتمام بما أقول بالقدر المطلوب وسرعان مايغير الحديث إلى أي موضوع آخر يخطر على باله في تلك اللحظة.
فكان لزاماً عليّ أن اردد ما أريد قوله لأكثر من خمسة عشرة مرة ولا أترك أي نقطة إلا بعد أن يرددها هو على سمعي واقتنع أنه قد استوعبها بالقدر الكافي.
عند بدء الحوار ابرز السلطان اتفاقية باللغة العربية يعود تاريخها إلى 20 سنة مضت أي إلى عام 1924 بين السلطان الفضلي السابق.
تنص مادتان في تلك الاتفاقية على أن تسمح يافع السفلى للفضلي للحصول على ماء قناة النازعة على أن يدفع الفضلي مقابل ذلك 25 روبية وقوصرتين من التمر سنوياً حسب العادة.
كما تنص مادة أخرى على وجوب هدم حصن حلمه» حصن يقع على أكمة تسمى حيد حلمه».
قال السلطان: لقد تم تنفيذ البندين السابقين وقتئذ، ولكنهم قبائل يافع أعادوا بناء حصن حلمه في الفترة الأخيرة.
ثم أبرز حكماً كتابياً أصدره سلطان العبادل «سلطان لحج عام 1929 وقال بالرغم من أن قراراً قد صدر بهدم الحصن إلا أن ذلك القرار لم ينفذ.
وأضاف السلطان بأنه قد حصل على حكماً كتابياً من السلطان العبدلي يثبت صحة شكواه ضد يافع السفلى بحوادث السلب والاغارة والتي نفذوها ضد أراضيه.
وبعد ان استرسل بالتنفيس عن مشاعره وبث شكواها إلى الحد الذي قدرت أنه كان كافياً بادرت بأخذ زمام الحديث وقلت:
قد يكون الأمر كما ذكرت ولكني اعتقدأن النزاع لايمكن حله الا إذا كف الطرفان عن رفع عقيرتيهما بالشكوى وتناولا المسألة بفهم جديد وعزم صادق على حلها مع ابداء حسن النية تجاه بعضهما البعض.
وأضفت: لقد اخبروني أن عمر هذا الخلاف أكثر من ثمانين عاماً ولا أحد يعتقد أن بالإمكان حله ولكني ثقتي بشعورك الطيب وكذلك شعور سلطان يافع السفلي كبيرة وأنا متأكد من أنك إذا حاولت أخذ المسألة بروح متفائلة فإن عليك أن تكون المبادر في البدء بالعمل لحلها.
كان هذا بالطبع أول معرفتي بخلاف عربي طال عهده ولم استطع أن استوعب بعد حقيقة أن مامن أحد من الطرفين كان يرغب في حل الخلاف.
كان من الطبيعي أن يسر السلطان لوجود شخص جديد يستمع لتفاصيل تاريخ القضية ويحاوره فيها.
وكان بودي أن لا أقول أي شيء آخر لولا أن السلطان عاد مرة أخرى يتكلم حول حصن حلمه كما لو كنت لم أقل شيئاً على الاطلاق.
قلت سأتطرق لموضوع حصن حلمه في الوقت المناسب أن موضوع الحصن مثل دمل سرى فيه الورم وسيظل يكبر ويكبر مالم يتم استئصال السم الذي تسبب في حدوثه.
لم أكن أرى أن حصن حلمه هو أساس المشكلة ولكن قبل البدء في الكلام عنه فأني أريد أؤكد الحاجة الملحة لابدئ حسن النية.
استمرينا السلطان وأنا فتبادل عبارتي حصن حلمه وحسن النية إلى أن وصلتنا رسالة من أحد السادة الهاشميين يشير فيها إلى ضرورة حل المشكلة وحسم الخلاف وقد استخدم في رسالته تلك نفس العبارات والمصطلحات التي طالما رددتها وقد حث فيها الطرفين على نسيان الماضي بكل مآسيه وطلب اظهار المودة.
وركزت حول هذه النقطة حتى استطعنا أخيراً أن نخرج من دوامة حصن حلمه.
بعد أن تمكنت من الحصول على موافقة السلطان على أهمية ابداء المودة المتبادلة، قلت:
أن جذور المشكلة كما يراها السلطان الفضلي هي ماء النازعة، نعم أجاب السلطان أنها تروي كل حقولي ورجال قبائلي.
حسناً إذاً إذا تمكنا من الوصول إلى اتفاق يحصل بموجبه السلطان الفضلي على القدر المطلوب من الماء وفي الوقت المناسب طبقاً للعرف المتبع ويحصل السلطان عيدروس مقابل ذلك على مايستحقه وفي الوقت المناسب أيضاً حسب ماهو متعارف عليه فإن موضوع «حصن حلمه يعتبر منتهياً ولن يهتم أحد بهدمه أو بقائه.
وبينما كنت ما أزال أردد الكلام مؤكداً على الحاجة الملحة للوصول إلى حل ملائم لمسألة ماء النازعة دخل إلى الغرفة صالح ابن السلطان وزج بنفسه طرفاً في الحديث ومحور حديثه حول حصن حلمه وهكذا عدنا إلى حيث بدونا.
ولكن السلطان لم يكن راغباً في الحديث مع ابنه صالح، لهذا انسحب خارجاً إلى البرندة وسرعان ماغيرت موضوع الحديث مع صالح وقلت له أنني أمل أن يكون مطيعاً لأبيه عوناً له ولكن صالح مالبث أن غادر المكان.
عاد السلطان وعدنا نواصل حديثنا في الموضوع ذاته، قلت نحن متفقون على تسوية مناسبة لمسألة ماء النازعة «واستطيع أن أخبرك أننا يجب أن نفكر بإزالة الحصن لأنه يشكل مصدراً دائماً للعدوان على الجانب الذي لايستولي عليه ولكن لكي يتم تحقيق ذلك فإن عليك أن تتخذ الخطوات اللازمة لضبط أهل حيدرة منصور وأهل فليس إذ ليس من المعقول أن يترك أهالي يافع السفلى هدفاً لغاراتهم المتكررة.
أجاب السلطان يمكننا أن نتبادل المندوبين: وبإمكان المندوبين أن يرفعوا تقاريرهم إلى السلطان عن الجانب الذي يعيشون فيه وعندما تحدث غارة من قبل أي من رجال الطرفين فأن بإمكان السلطان المعني أن ينزل بهم العقوبة الفورية.
قلت حسناً ليس في هذا ضرراً ولكن العلاج الناجح يكمن في إحكام قبضتك على هاتين القبيلتين من الرعاع حتى لايتسنى لهم القيام بالإغارة.
عليك ياسمو السلطان أن تفكر بالأخطاء التي ارتكبها رعيتك ضد يافع السفلى وماالذي يمكن عمله من أجلهم عندئذ ستكون التسوية في متناولنا فليس من العقل في شيء أن نجد أثنين من كبار الزعماء يتشاجران كما لو كانا رجلين بمثل نفوذ كما لم يستطيعا حل المشاكل القائمة بينكما فذهبتما إلى لحج وطلبتما من سلطانها أن يكون حكماً بينكما الم تفعلا ذلك؟
شرع السلطان الفضلي يحدثني عن السلطان عيدروس قلت له ينبغي عليك أن تكون أكثر تسامحاً فهو السلطان عيدروس في الحقيقة شاب صغير بينما أنت رجل كبير وخبرتك في الحياة واسعة لذا وجب عليك أن تبذل مافي وسعك من أجل السلام.
سأحاول أن نكون اصدقاء.
شرعت أتكلم في موضوع الأسباب التي يطالب رجال قبائل الفضلى بها من رجال قبائل السلطان عيدروس فقلت.
لقد أعلنت أنك رجل سلام وسيكون كرم عظيم ان تقنع رجال قبائلك أن ينسوا الماضي، ويتنازلوا عن مطالبهم حتى يتيقن رجال يافع السفلى أنك تعمل حقيقة من أجل السلام وأنك على استعداد أن تضحي من أجله.
قال السلطان: لا أستطيع أن أفعل ذلك، فسيترتب على ذلك حدوث سخط كبير بين القبائل إذ أن عليهم أن يدفعوا ليافع مبلغ ثمانية عشرة روبية.
أقدر أن هذه مشكلة ولا أستطيع أن أحاول المزيد لإقناعك، ولكني أطلب منك أن تفعل ذلك إذا كان ذلك ممكناً لأن ذلك سيكون برهاناً عظيماً على حسن نواياك.. بعد نقاش طويل وافق على أن يقنع رجاله، وقال أنه سيكون مضطراً أن يدفع من ماله لرجاله من قبائل يافع السفلى من جيبه الخاص ولكن.. استدرك يقول.. إذا كنت ستطلع سلطان يافع بذلك فلا تخبره أن ذلك كان مبادرة مني ولكن أخبره أن ذلك كان مقترحك أنت وأنا قبلت به على شرط أن تتم تسوية مسألتي النازعة وحصن حلمه.. في عصر اليوم التالي كنا السلطان وأنا في طريقنا إلى يرامس في الجبال وتقع على الطريق إلى حصن حلمه حيث كان علينا أن نوفق كل خلاف بين سلطان يراميس واثنين من قبائل السلطان الفضلي بخصوص رهن بعض أراضي يراميس للشيخ النخعي شيخ القبائل المعنية.. كان من المفروض أن نتحرك في تمام الساعة الثالثة ولكن كان من الطبيعي أن نتأخر لأن تحميل الجمال بأمتعة السلطان بما في ذلك صندوق الخزينة التي يلازم السلطان في حله وترحاله أخذ وقتاً طويلاً ولم نغادر المدينة إلا في تمام الخامسة مصحوبين بموكب من أعيان الفضلي.
كانت قافلتي هي أكبر قافلة متميزة تغادر شقرة على الاطلاق بالإضافة إلى السلطان كان هناك فضل بن حسين أخ السلطان وابنه حسين وعثمان بن حسين أيضاً أخ السلطان أيضاً وكذلك ابنه حسين عثمان بن حسين أيضاً أخ السلطان وكذلك ابنه حسين عثمان بن عبدالله ابن أخت السلطان وأثنان من سلاطين قبائل حيدرة أبو منصور وسته من العقال من القبائل الأخرى وابن سلطان يراميس وآخرين بما في ذلك صهر السلطان القائد محمد بن عبدالله أبو حيدرة الذي يذكرك صوته ب جورج ارليس المعروف بصوت الجهورى والذي يعرف هنا محمد بن عبدالله بالعم محمد.
لم نكن قد سرنا بعيداً عندما تبعنا العم محمد يجري بقعوده وصاح وهو يربت على القتب «إذا احتجتم إلى الماء أو لأي شيء آخر أخبروني وعندما وصل إلى مقدمة الركب ترجل عن قعوده، ورغم أنه كان في الثانية والستين من العمر فقد انطلق يساير الحرس وكأنه شاب، كان يحدو القاقلة ويشدو بالغناء ويدفع بالآخرين لمشاركته الغناء.. كنا نقترب من سلسلة أكام جرداء التي تبدو قممها خدعة للعين وكأنها متقاربة وهبط الظلام بعد أن اجتزنا وادي رحمة الذي يشق سطح مصبه فوهات بركانية سوداء وبين الحين والآخر يتناهى إلى مسامعنا صوت الشاب حسين برنته المنغمة المهيبة وهو يصيح يسأل.
كم تبقى لنا من المسير ياأحمد ناصر؟
وعندما مر بمكان ملائم للاناخه يعود للسؤال ياعم محمد هل نتوقف للمبيت هنا؟
بعد أن صعدنا السير في طريق مرتفعة وبعد أن اضعنا طريقنا في الظلام للمرة الثانية ثم بدأنا بالانحدار نحو وادي متوان وكنا في غاية السرور إذ أننا كنا قد وصلنا إلى حيث سنحط الرحال ونبيت.. كان قاع الوادي مبسوطاً وملياً وكانت جوانبه افقية ترتفع حوالي 15 قدماً، وهو مكان مناسب للمبيت.
بسطنا المفارش التي كانت على ظهور الجمال واستلقينا عليها لبعض الوقت قد نجم عن ذلك أن تلطخت يدي زوجتي وثوبها باللون الأزرق الداكن إذ أن المفرش الذي كانت تجلس عليه كان مصبوغاً بالنيلة.. كنا قد وصلنا في حوالي الثامنة والنصف مساء، وتبعنا السلطان بعد نحو ساعة من وصولنا فقد أنشغل بحديثه الذي لا آخر له رحبنا به وتحدثنا معه بعض دقائق قبل ان يصحبنا إلى الجانب الآخر من معسكر المبيت حيث يجلس عدد من العقال.
خرجنا حسين وأنا وبعض العبيد لجمع الحطب.
كان حسين شاباً مرحاً فقد راح يخوف من كان معنا بالتظاهر بأن هناك ثعابين بين الأشجار التي كنا ننزع من بينها العيدان الجافة.
بدأ كما لو أن الجمال التي تحمل الامتعة والأسرة والطعام لن تصل أبداً، وعندما وصلت في الحادية عشرة والنصف كان الشعور بالجوع قد تلاشى.
وبرغم الهرج الذي صاحب وصول الجمال التي تحمل المتاع فإن حسين الذي كان قد أستلقى على ظهره وراح يغط في نوم عميق دون أن يقطع عليه نومه شيئاً مما اسمع.
نصبنا الخيام وبسطنا اسرتنا على وجه السرعة، أكلنا شيئاً من البسكويت وشيئاً من البطيخ ثم خلدنا إلى النوم وفي اسماعنا أصوات الجمال غير المألوفة لنا والتي كانت باركة على مقربة من خيمتنا.. أعتقد أنني كنت أول من استيقظ في المعسكر صباح السبت، كان الظلام مايزال يغشى الوادي ولكن خيوط الفجر كانت قد بدأت تظهر في الأفق.. كان الاتفاق ان نبدأ الرحيل بعد صلاة الفجر مباشرة ولكن بدأ أن مامن أحد قد نهض لأدائها.. أيقظت علي وعبدالله واخبرته أن عليه أن يؤدي الصلاة وعلى أي حال فهو يعتقد ان من يريد أن يصلي فليصلي منفرداً هذا إذا كان هناك من يريد!! يصلي أصلاً خلال رحلتنا هذه.. وقد كان قوله حقاً كما قال فمنذ غادرنا زنجبار صباح الأمس وكنت فيها قد رأيت السلطان وهو يؤدي صلاة الفجر قرب سريره بدأ أنه ما من أحد يهتم بأدائها على الاطلاق.
هناك بالطبع عذر لمن هم على السفر ولكن بالنسبة لرحلة مريحة كرحلتنا فليس هناك من عذر.
بدأ أحمد العبد بايقاظ النائمين وهو يصيح استيقظوا هيا اليوم قوموا وبعد أن غسلنا وجوهنا بدأنا المسير حوالي الخامسة والربع في إتجاه أعلى الوادي حتى وصلنا إلى جدار صخري الجبال جرداء ثم انعطف مسيرنا شمالاً أمامنا كانت مدرجات مزورعة بالشعير على جانبي التل وبالرغم أنها المزارع موجودة بكثرة في الوادي إلا أن منظرها في المدرجات تبدو وللعين كما لو أنها رصت رصاً في خطوط تنحني نحو الأسفل وبزاوية 45 درجة.
استمرينا نصعد إلى حوالي ساعة كاملة عبر الطريق الصخري الضيق حتى بلغنا قمته حيث ترجلنا عن الجمال وتسلقنا الممر ثم بدأ بالانحدار إلى وادي يراميس الذي ينحدر إلى الأسفل بنفس القدر الذي تصعد فيه الطريق إلى أعلى من الجانب الآخر. . في تمام الثامنة دخلنا وادي يراميس حيث تجري فيه المياه وتنمو على حافتيه الحشائش والمزروعات.
كانت مجموعتنا بقيادة العم محمد قد تقدمت كثيراً لهذا توقفنا في انتظار السلطان حتى يتم دخول الروضة بموكب رسمي.
جلسنا على ضفة النهر ونشرب الشاهي بينما راحت الجمال ترعى الأشجار والنباتات وعندما وصل السلطان تابعنا المسير على امتداد الوادي حتى تراءت لنا الروضة جاثمة على هضبة وقد بدأ دار السلطان شامخاً على كل ماحوله.
صعدنا إلى الهضبة وترجلنا عن الجمال على بعد مسافة من الدار واصطفينا في صف طويل بينما شكل الجمال والحمير صفاً آخر خلفنا وعلى بعد خمس ياردات تقريباً وقف المستقبلون يتوسطهم سلطان يراميس وابنه قبالة السلطان الفضلي واقاربه وأنا.
كان أهالي يراميس يقرعون الطبول ويرددون الاهازيج ترحيباً بقدومنا ثم مالبثوا أن أتوا بعجل وذبحوه ثم بدأوا يرقصون بما يمكن أن نسميها برقصة بربرية تعرف بالموكب ومن بين الجمع قفز رجلان إلى أمام صف السلطان: يراميس ثم تبعهما آخران وآخران حتى صاروا عشرين ثم تقدم الموكب نحونا على شكل دائرة واسعة إلى أن اقتربوا منا وكلما مراثنان من الموكب أمامنا السلطان وأنا فإنهما يرفعان بنادقهما ويطلقان النار في الهواء وهم يرددون الزوامل المرتجلة وتكرر ذلك عدة مرات قبل أن يعود الموكب إلى الجانب الآخر.
وكان الدور علينا نرد على التحية ولكن بسبب وجود المشائخ المتزمتين في صفنا فقد اعتبرنا أنفسنا من الأهمية بحيث أن نقوم بالموكب بالطريقة التي نختارها نحن وبما يتناسب.
مع مكانتها وقد فعلنا ذلك بنفس الطريقة وفيما عدا بعض القادة فإن الغالبية في صفنا كانوا من المشائخ، وأمتطى ثلاثة من المشائخ خيولهم وراحوا يحومون حول دائرة الموكب على طريقة السيرك وعند العودة بدأت المساجلات الشعرية الإنشاد القصائد للمناسبة وسألوني عن أسمي حتى يضمنوه بعض منها واليكم بعض ماقيل أو بما معناه.
«جئنا مع السركر الحكومة الذي جاء خصيصاً ليعيد الأمن للخائفين.. «ولديه من الجنود والعتاد مايمكن أن يكتسح العالم بحراً وبراً «جاء انجرامرز إلى وادي يراميس وعاد إليها الأمن ومعه جيشه الضارب الذي بمقدوره أن يكتسح العالم.
وهناك سحب باديه توشك على أن تشن مزنها في الصيف والشتاء.. سرعان ماتلقن الآخرون تلك الكلمات وراحوا يرددونها، مضينا جميعاً في صف واحد في إتجاه دار السلطان يراميس.
صافحنا مضيفنا وكذلك السلطان حيدرة ذلك الكهل العزيز ذو الإبتسامة الطفولية المرحة العالقة بفمه الأدرد أمسك بيدي وقادني بخطوات مسرعة عبر ساحة تكوم القش على أرضيتها، إذا إنها تستخدم كزريبة للحيوانات وكمقر أيضاً للمحكمة والعدالة السلطانية دخلنا الدار وصعدنا الدرجات الملتوية المظلمة شديدة الخطورة وبعد دقائق من الصعود الخطر عبر أربع أو خمس لفات جرني إلى غرفة الضيوف وأجلسني على الأرض وجلس قبالي وعلى شفتيه ابتسامة الدردة معبراً بها عن إحتفائه وترحيبه.
كانت غرفة الضيوف خشبة مفروشة بحصير رث هو سرير عليه شملة مصنوعاً محلياً أما نوافذها فليس له مصرع أو زجاج وهي عبارة عن شبك خشبي للزينة فقط غير قابل للفتح.
ولم يمضي غير وقت قصير حتى تبعنا بقية القوم وقدم لنا الخبز الابيض والشاهي الملبن المطيب بالهيل والشاهي السادة الذي زيدت فيه كمية السكر وبعد ان تبادلنا التحيات خلدنا إلى الراحة لبعض الوقت.
حان وقت الغذاء كانت الوجبة مكونة من فطير التنور التي يتراوح قطر الفطيرة منها من قدم إلى ثلاثة أقدام كانت تخرج من التنور ويقذف بها لنا في الحال وجاء العبيد بالطعام كان أحدهم يحمل صحنا كبيرة من اللحم الممرق القى بها على السفرة كما لو أنه كان يوزع أوراق كوتشينه بدأ المشهد كما لو كان في قفص أسود حان وقت أطعامها، تبع ذلك، صحنه كبيرة من الرز الرائق وضعت وسط السفرة وعدد من الارغفة الساخنة المتبعة بالصحن على كل واحدة منها رجل من لحم الضآن.
تناول السلطان عبدالله ابن السلطان حيدرة الطعام معنا.. بعد أن شعرت أنني ابديت من الأدب واللياقة بما فيه الكفاية قلت: الحمدلله، ثم نهضت.
قال عبدالله الحمدلله، هل شبعت بهذه السرعة؟
أعتذرت وقلت لقد أكلت بما فيه الكفاية وأنسحبت إلى ركن الغرفة لأغسل يدي وأسلك أسناني.
بعد الغذاء القهوة الطيبة بالزنجبيل ومزيد من الشاي وكمية كبيرة من الحليب الطيب، بعد ذلك كله استلقينا لنستريح.
تقع الروضة على الجانب الأيمن لوادي يراميس على نجد منخفض على جرف ترابي، وقد كانت الروضة مركزاً مهماً للمواصلات وحتى عهد قريب كان هناك عدد من الدكاكين وقد كان الوادي المحيط بالمنطقة مخضراً بالمزروعات.
ولكن منذ عهد قريب أبتدت الحكاية، فقد أختفت في الوقت الحاضر تلك الدكاكين ولم تعد الزراعة كما كانت وكما ينبغي لها أن تكون. . وسيكون من الصعب على من تعود حياة الحضر أن يصدق أن الخراب الذي ساد كان نتيجة لخلافات عائلية.
ففي أحد طرفي هذا النجد قصر السلطان حيدره حيث، يعيش هو وأولاده ومن يعيش في كنفه، وهو سلطان يراميس ويحكم الوادي بصفته إقطاعياً موالياً للسلطان الفضلي.
وعلى الطرف الآخر من النجد يقع منزل ابن أخيه السلطان جعبل بن حسين والذي يعيش معه في نفس الدار، أخواه الاثنين.
ولايبعد الداران عن بعضهما أكثر من مائة ياردة والساحة التي تفصل بينهما مثل ساحة ميدان.
وقد حدث نزاع بين السلطان وأخويه كطرف وبين عمهم السلطان حيدره وأبنائه كطرف آخر.
إذا خرج السلطان نفسه خارج داره أو خرجت من مواشيه ثور أو حمار أو عنزة خارج حدران فإن رصاصات جعبل له بالمرصاد والعكس بالعكس اذإ خرج جعبل من داره أثناء النهار فإنه سيكون هدف رصاصات عمه المتربصة. . وقد كان من الطبيعي في جو كهذا أن تجد أصحاب الدكاكين وغيرهم أن العيش في وسط البنادق المشرعة من الجانبين لم تكن مجلبة للراحة والكسب بقدر ما كانت مصدراً مقلقاً يتهدد حياتهم ففضلوا الرحيل.
ونتيجة لهذا النزع التافه حل الخوف محل الأمان وتوقف الناس عن فلاحة الأرض ومنذ سنوات لم تعد الابقار والثيران والماعز والضأن تأوى إلى حضائرها في البيوت، ولكن يحتفظ بها في الوادي فلكل طرف من الطرفين حصونة في أسفل النجد حيث يمكن مراقبتها ومما بينهما المواشي من أعلى. . عند إجتماعنا في الصباح اشتكى السلطان حيدره وابنه عبدالله من أفعال جعبل عبرت عن أسفى لأن الروضة التي كانت في السابق كما قيل لي مدينة كبيرة صارت الآن نتيجة لخلافهم العائلي مدينة خاوية.
ولدى استفساري عن السبب الحقيقي للنزاع قال السلطان عبدالله أن جعبل قتل حمية والدة زوجة السلطان عبدالله قبل سبع سنوات. . ولكن عبدالله لم يحاول الأخذ بالثأر وحاول بدلاً عن ذلك أن يقنع جعبل بأن توضع القضية موضع تحكيم كما يقضي العرف القبلي ولكن جعبل رفض أن يقبل بذلك. . وبالإضافة إلى ذلك فإن جعبل أخذ واحداً من رجال السلطان حيدره وأرسله للجبال لبيعه هناك.
قلت أني أقترح أن أقوم بترتيب صلح بين السلطان حيدره وبين جعبل، إذ من غير الممكن أن يكون هناك حل دائم للمشاكل يمكن الوصول إليه مادامت العداوة قائمة بينهم وأضفت قائلاً:
إن مشاكلكم مع شيخ النخعي يمكن حلها بسهولة إذا أظهرتم هل أنتم على إستعداد لاستقبال جعبل إذا أقنعته بالحضور إلى هنا.
نعم نحن مستعدون.
تحدثت إلى السلطان الفضلي حول الموضوع والذي بدوره عين العم محمد وسيطاً بين الطرفين. . ذهبت إلى خيمتنا التي نصبت في وسط الساحة التي تفصل الطرفين المتنازعين كتبت رقعة صغيرة وأرسلتها لجعبل أدعوه فيها لزيارتي. . في الخيمة وأخبرته أنني أرغب في التعرف عليه ومصادقته والحديث معه حول أمور كثيرة، أخذ علي عبدالله الرسالة إلى جعبل.
جاء جعبل إلى خيمتي بعد ابطاء بمعية أخويه عبدالرحمن وأحمد.
تعمدت عدم الاهتمام بجعبل فقد كنت أعرف انه أرتكب ثلاث جرائم قتل وعرفت فيما بعد أن عدد ضحاياه بلغ واحد وعشرين.
وقد حاولت جاهداً أن أكون متحاملا عليه رغم أن عمه كان أحد ضحاياه ووجدت أنه شخصية منفرة كانت في أوائل الثلاثينات من عمره.
ذو أسنان ناتنة ومظهر يتسم بالغباء وعلى العكس منه كان أخيه عبدالرحمن فقد كان أفضل منه بكثير فهو إنسان ودود،وبرغم أن أخاه الآخر أحمد كان متجهماً ولم أنجح في حمله على الابتسام ولو مرة واحدة إلا أنه بدا طيباً.
بعد تبادل التحيات المعتادة، قلت بلهجة أقرب للنفاق.
إنني سعدت بالتعرف عليهم وإقامة صداقة معهم وزيارة بلادهم.
ورددت عليهم نفس الكلام الذي قلته للسلطان حيدره وأبنائه أجاب جعبل بغض النظر عن الخلاف الذي بيني وبين عمي فإنه قد جاء بآل النخعي إلى بلادي بدلاً من أن يعمل على حل الخلاف، القائم بيننا.
قلت لقد قابلت عمك حيدره وابن عمك عبدالله وقد وافقا على تجديد الصداقة معكم وقد عين السلطان الفضلي حكما ليسوي النزاعات القائمة بينكم. . وافق جعبل على هذا ثم قدمنا لهم الشاي وبسكويت جاكوب وبعد أن سبقنا رسولنا غادرنا الخيمة جعبل وأخويه وأنا قاصدين دار العم.
عند وصولنا أستقبلنا السلطان حيدره بمعيه عبدالله وأحمد وأبنائه وقد أتسم استقباله للاخوة الثلاثة بالحفاوة الأبوية الزائدة وقد بدأت ابتسامته أكثر اشراقاً عن ذى قبل بعد أن وهجتها حرارة اللقاء، ورغم أن جعبل قد بادله العناق إلا أنه بدأ متحفظاً وفاتر الحماس، ويخيل للمرء أنه لقاء أقارب ضائعين جاءوا من أركان قصية من الكرة الأرضية وليس من مكان لايبعد سوى مائة ياردة. . مرة أخرى صعدنا الدرجات المظلمة والأيادي تمسك ببعضها البعض. . قدت جعبل وأخويه أنا مزهو بفرحة النصر قدتهم إلى غرفة الضيوف وقد بدأ عليهم كما لو أنهم متوقعون أن يغدر بهم وأن يقتلوا في أية لحظة.
قلت بعد أن جلسنا «لقد جمعتكم لأن من العار أن تفعل أي أسرة مثلما فعلتم أنتم إذ ينبغى أن تكونوا أسرة متماسكة في كل الأحوال وينبغي أن تعود الزراعة إلى أراضيكم والتي علمت أنها تركت بدون فلاحة لسنوات بسبب خلافاتكم. . أعترض جعبل بلهجة غير ودية وقال أن لديه شكاوي عديدة ضد عمه أجبته :«بأن كل الشكاوي سيتم النظر والفصل فيها من جانب المحكم.
قال جعبل بلهجة شك ربما لايتم تنفيذ ما يقرره المحكم وأستمر يعزف على إذا كانا يقبلان ويلتزمان بما يقرره.
كانت إجابتهما «نعم».
التفت إلى جعبل وقلت يجب عليك أن تدعي لعمك، ليس لانه كبير العائلة وحسب بل لأنه «حاكمك» ويجب عليكم أن تكونوا رعايا صالحين لسلطانكم الفضلي.
كان السلطان حاضراً المقابلة وقد أختار هذه اللحظة ليضع ثقله في المسألة أكثر من المعتاد، وقد كنت حريصاً أشد الحرص في كل أفعالي أن أخبرهم بأن السلطان الفضلي قد قرر هذا أو ذاك، وعندما ذكرت أن العم محمد سيكون الحكم أعلن السلطان أنه قد عين أيضاً حكماً ثانياً هو صالح بن ناصر وهو أحد أقارب السلطان.
وقد سمع صوت إحتجاج على ذلك، فأسرعت أقول أنني لا أتذكر أن إسم صالح بن ناصر قد ذكر عندما تقرر أن يكون محمد بن عبدالله وهو الحكم، ولكني متأكد بأن أي قرار سيتخذه سيكون صائباً وربما ناقشناه فيما بعد وقد تمت الموافقة وساور الجميع الشعور بالارتياح.
قلت كل ما أقوم به أنا هو دعم لمولاكم السلطان الفضلي ورغبة في إقرار السلام.
بدأ على الجميع أنهم راضون بما تم الاتفاق عليه، وأنفض الجمع سعداء من أجل أن يبدأ موكب شعبي تعبيراً عن السلام الجديد. . بعد أن تركنا السلطان الحيدره وأقاربه الذين عادت إليهم وحدتهم مضيت أنا والسلطان الفضلي إلى الخيمة حيث ناقشته بموضوع تعيين صالح بن ناصر كحكم إضافي وأقنعته بالتخلي عن الفكرة وبينما نحن جلوس كان الموكب يتهيأ للمسير.
أصطف فريقنا خارج الخيمة بحوالي عشر ياردات وضم كل من حيدره وأولاده،والزائرين ونحن وأصطف على الجانب الآخر على بعد خمسين ياردة الفريق الآخر ويضم كل من جعبل وأخويه وأتباعهم جيئ بعجل آخر فذبحوه.
وبدأ جانب الفريق الآخر بالتحرك نحونا ونفس الطريقة التي أتبعوها في الصباح، ثم جاء دورنا نحن فتحركنا باتجاههم حيدره وأبنائه الاثنين وبعض مشائخ الفضلي من بينهم الشاب حسين الذي ظهر في موكب لأول مرة، وقد القيت القصائد بالمناسبة بعد الانتهاء من كل ذلك أخذني سلطان الفضلي من يميني ومضينا في اتجاه منزل جعبل حيث دعينا للعشاء وبعد أن تسلقنا الدرجات المظلمة الشبيهة بتلك التي في دار عمه وصلنا إلى غرفة الجلوس حيث قدمت لنا القهوة والشاهي والخبز.
وأبدى السلطان الفضلي إنزعاجه من نفسه لأنه قبل بالقيام بالزيارة أصلا وقال أنه يشكو التخمة وأستدعى اثنين من عبيده أن يأخذوا الطعام إلى الخارج وأن يقوما بتحريك مراوح مصنوعة من سعف النخيل، لتهويتنا لذلك قلت للسلطان نسمة لطيفة تهب عبر النافذة وجلست بالقرب من النافذة قرابة ساعة كاملة، ثم أعتذر للحاضرين وقلت أنني أشعر بالتعب وأرغب في الذهاب للنوم مبكراً إذ أننا نزمع التحرك عائدين قبل طلوع الفجر.
سلكت طريقي عبر الدرجات المظلمة ماراً بالساحة التي تحولت إلى ساحة مجزرة وقد أحصيت مالا يقل عن سبعة من الخراف والغنم التي ذبحت قبل وقت قصير وشقيت طريقي بين برك الدم وأنا أشعر بالغثيان.
تبعني أخوان جعبل إلى الخيمة وهم يطلقون عيارات بنادقهم بالتبادل في كل دقيقتين أو ثلاث ولم أكن مهيئاً لمثل هذه الحركات شعرت بالخطر إذ أنهم كانوا يطلقون الرصاص على بعد ياردة واحدة خلفي وعلى أي حال فقد علمت فيما بعد أن هذه عادة التحية صانع السلام.
مررنا بالثور المذبوح وقد تجمع حوله القرويون يتقاسمون اللحم فيما بينهم وقد أرتفعت أصواب بعضهم بالمشاجرة وعندما وصلنا إلى الخيمة قلت لمرافقي: تصبحون على خير. . بعد برهة قصيرة عاد عبدالرحمن أخو جعبل وأحضر كبشاً ضيافتي وأحضر كذلك معزة لزوجتي وكذلك زوجين من الفراخ تعشينا بيضاً مقلياً وقد عملت مافي وسعي للتخلص من المواشي.
ثم خلدنا للنوم السلطان الفضلي قال قبل ذلك متفاخراً امام السلطان حيدره أنه يقترح يرافقنا أربعة جنود لحراستنا فقلت:
إنه دون شك فاعل مايراه مناسباً ولكني أشعر بالأمان الكافي في ظل أجواء السلام الحالية. . وفي وقت لاحق أرسل السلطان حيدره مرافقه ليخبرني أنه يرغب في إرسال بعض الجنود لحراستنا ورديت عليه بأن ذلك شرفاً كبيراً لي ولكني أشعر بالأمان. . وفي الأخير جاء العم محمد ليسألنا عما إذا كنا نحتاج أي شيء، وأقترح أن يأتي بفراشه ينام بالقرب من الخيمة حتى يتسنى له تلبية طلباتنا.
لم يعد هنالك مايدعو للقلق فقد كان موضوع حديث تلك الليلة هو حقيقة أن المواشي قد عادت للبيوت تلك الليلة وهذا مالم يحدث منذ سنوات. . خيم الهدوء على المكان بعد تفرق القرويين الصاخبين وقد حمل كل واحد نصيبه من اللحم، وبين الفينة والأخرى يسمع نباح الكلاب التي أنشغلت بأخذ نصيبها من بقايا الذبائح وقد أختلط نباحها بأصوات الحرس الخافتة، وفيما عدا ذلك فلايسمح غير دقات الطبول التي أستمرت تقرع دون إنقطاع حتى مطلع الفجر في صباح اليوم التالي وبعد تناول الافطار ذهبت لزيارة سلطان يراميس وأقاربه بما فيهم جعبل وكان السلطان الفضلي هناك ، وتم الترتيب لإقامة هدنة مدتها شهر واحد بين آل النخعي وجعبل إلى أن يتمكن العم محمد من فض النزاع القائم بينهم، إضافة إلى حل الخلافات العائلية بين جعبل وعمه. . وبسبب عدم وجود أحد من آل النخعي في الروضة، فقد أقترحت أن يتم استدعائهم واطلاعهم بم تم الاتفاق عليه. . عندما أرسلنا في طلبهم رفضوا المجيئ .. وبإيعاز مني ذهب السلطان الفضلي بنفسه لمقابلتهم وطال حديث السلطان معهم حتى أن أرسلت علي عبدالله ليسأل السلطان عما إذا كان يرغب في قدومي إليهم وجاء الرد بالايجاب فذهبت.
كان أحمد حسن كبير آل النخعي في يراميس الشيخ رجل كبير السن لطيفاً ذو لحية بيضاء، وقد أستقبلني بود.
وعندما طلبت منه أن يأتي معي : أخذني إلى النافذة وأشار إلى صخرة في الوادي وقال:
هناك قتل أخويه ولن أجلس مع جعبل.
في تلك اللحظة كانت عواطفي معه، ولكني فكرت أنه سيكون من الأفضل أن أحاول وضع نوع من الصلح على ضوء المعاهدة التي تم التوصل والاتفاق عليها.
فقلت له:
أود لو جدد آل النخعي صداقنهم مع جعبل لأن ما من تسوية حقيقية يمكن الوصول إليها مادامت العداوة قائمة بين الاطراف المعنية. وافقوا في الأخير أن يأتوا معي أخذت أحمد حسن من يده وقدته إلى الغرفة حيث كان جعبل وآخرون في الانتظار حيث تقدم وصافح الجميع.
وعندما قدمت القهوة شرحت الخطوات التي تم الاتفاق عليها والتي قلت أن السلطان الفضلي هو الذي قدمها، وأنني ويجب أن تفهموا ذلك جيداً إنما أدعم مولاكم السلطان الفضلي وأرغب في أن يسود السلام منذ اليوم في المدينة.
وأضفت.. وإذا كان لدى آل النخعي أراضي هنا ويرغبون في فلاحتها فيجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم مثل مواطنين يراميس الاخرين وأن ينووا بالطاعة لحكام البلاد وعليهم أيضاً أن يدركوا أنه ليس لهم الحق في التدخل في شؤون الدولة وأن يظهروا طاعتهم لأحكام السلطان.
وهكذا أتم إقرار هدنة مدتها شهر واحد بين آل النخعي والسلطان يراميس.
قال جعبل أخشى أن يبدأ آل النخعي بخلق المشاكل من جديد إذا أنتهت الهدنة دون أن يتم أي جزاء. . عملنا كل مافي وسعنا عمله ليتم حل كل الخلافات قبل إنتهاء فترة الهدنة،بعد أن تم إنجاز كل ذلك قلت للسلطان حيدره وأقاربه وداعاً وغادرت المنزل في طريقي إلى الخيمة مصحوباً باثنين من حرس صانع السلام وهم يطلقون النار من بنادقهم.
ثم أنطلقنا متخذين طريقنا إلى أسفل الأكمة في طريق الوادي نحو هدفنا القادم «حصن حلمة».. كان الوادي مخضو ضراً بكثرة النباتات التي تنمو على جانبه وكان النسيم يخفف وطأة الحر رغم ذلك لم يمنعنا من الشعور بالارهاق عند الغروب إضافة إلى أننا أكلنا وشربنا كثيراً وفوق اللازم في سبيل السلام والصداقة حتى أنني بدأت أشعر أنني لست على مايرام في.
سرنا على مدى ساعات النهار على إمتداد وادي يراميس إلى أن وصلنا وادي بنا صباح اليوم التالي حيث تراءى لنا حصن حلمة من بعيد.. وهنا وصل رسول من سلطان يافع برسالة رداً على رسالة كنت قد بعثت بها للسلطان في الليلة السابقة وهاكم نص رد السلطان:
«أستلمنا رسالتكم المؤرخة 17 يونيو 1934م، بخصوص قدومنا إلى حصن حلمة ورداً على ذلك، نعلمكم أيها الصديق العزيز، أننا نأمل أن تصل إلى منطقتنا الغد. . وسنكون في استقبالكم لدى وصولكم إلى حصن حلمة بكل حفاوة وتكريم ويسرنا جداً التعرف بشخصكم وبأخلاقكم الطيبة.
وفيما يخص سلطان الفضلي وأتباعه نود أن نطلب منكم أن تسمحوا لهم بالذهاب إلى عبر الشعبة للحيلولة دون اللقاء بهم».
كنت أعتقد أن السلطان عيدروس يريد أن يثبت صلابته على نحو ما ولكني قررت أنه من الحكمة أن أذهب حصن حلمة بمفردي، طلبت من السلطان الفضلي البقاء هو وجماعته في عبر الشعبة حيث يمكني أن أرسل في طلبه متى ماكان ذلك ممكناً. . حالما أقتربنا من التلة التي ينتصب عليها الحصن انفصلنا عن مجموعتنا أنا وزوجتي ومعنا علي عبدالله وأثنان من الحرس.
وأتخذنا طريقنا نحو الحصن وعندما دنونا من موقع حصن حلمة تم ايقافنا وصاح الدليل الذي يرافقنا قائلاً أنها الحكومة وتبع ذلك طلقة بندقية وأطلعت خمس بنادق رصاصها تحية لنا وعندما وصلنا إلى أسفل التلة علمنا أن السلطان غير موجود هناك ولكن وصل بعد قليل وصل السلطان وأستقبلني بحرارة وبمزيد من تحيات الطلقات النارية.
والسلطان عيدروس بن محسن العفيفي سلطان يافع السفلى رجل حسن في أوائل الثلاثينات من عمره وقد تكون عندي في الحال انطباعاً طيبا عنه فهو أكثر الناس ثقافة ممن قابلتهم مؤخراً.
وهو السلطان ذو أخلاق دمثه ويبدو عليه الذكاء والثقة بالنفس وتخلو طريقته في الكلام من السذاجة وقد فوجئت تماماً لقدرته على السيطرة على رجاله، لقد جاء من مقره من الحصن مدينة تبعد حوالي خمسة أو ستة أميال لملاقاتنا بمعية خمسمائة من رجاله وإذا كان ثمة تعبيراً. . يمكن اطلاقه على مجموعة من البدو غير المدربين فيمكن أن يقال عنهم بأنهم أتباع منضبطون ينفذون أي أمر يصدر إليهم من السلطان مشافهة أو بالاشارة.
كان السلطان متأنقاً إذا لم تقل أنه شديد التأنق ورغم أن حرارة الجو كانت وقتئذ لاتطاق كان يرتدي عمامة حريرية بنية اللون شامخة على الطريقة اللحجية ويرتدي معطفاً طويلاً ملون يصل إلى الركبتين ذو ياقة ضيقاً على الطريقة الهندية، ويرتدي تحته بنطلوناً أسود اللون وحذاء بنياً وحول وسطه يلتف حزام خنجره الموشى بالذهب كان يمتطي حصاناً صغيراً.. كنا قد تجمعنا تحت ظل شجرة صغيرة وفي مكان مجاور وعندما تقدمت لمقابلته، ترجل عن حصانه، وتصافحنا.. وقد عمدنا على نحو ما لتخلص عن التكليف المعتاد وعبر كل واحد منا عن شعوره بالسعادة للقاء بعضنا البعض، تقدم أحد أتباع السلطان وفرش قطيفة تحت الشجرة وقدمني السلطان لبعض أتباعه الكبار بما فيهم عاقل حصن حلمة وهو رجل سمح الوجه شديد السواد.
جلسنا وبدأنا حديث عمل في حيث قدمت لنا القهوة والشاهي طلب من السلطان عيدروس أن نصعد إلى الحصن ولكني فكرت أنه من غير اللائق أن يجد السلطان الفضلي حجة للرفض فقلت إنني أشعر بالتعب رغم أن ذلك لم يكن صحيحاً على الاطلاق، ثم القيت السؤال الكبير ورددت على السلطان عيدروس ماسبق وأن قلته للسلطان الفضلي إلا أني واثق تمام الثقة أن شاباً مقتدراً ذكياً مثلك قادر على أن يقيم صداقة مع السلطان الفضلي وأن يعمل على حل كل الخلافات ومن ثم تذهبان إلى سلطان لحج «وتطلعاه على ماتوصلتما إليه.
أجاب السلطان عيدروس أنني أسعى من أجل السلام ولكن آل الفضلي لايسلموا بحق أهالي يافع السفلى في الحقول ولايريدون أن يعوضوا عما لحق بقبائلي من القتل والنهب.
قلت وأنا أبتسم، أن آل الفضلى يدعون عليكم بمثل ماتدعون.
قال السلطان خلال فترة الهدنة أستمر آل الفضلي في نهب ممتلكات رجالي دونما سبب.
وجدت نفسي مضطراً أن أكرر نفس ماقلته للسلطان الفضلي حرفياً بأنه لن يكون هناك السلام حقيقي مالم يظهر الطرفان رغبة أكيدة لحل كل مشاكلهم وأضفت وإني أنصحك أن تفكر بالأخطاء.. التي أرتكبها رجالك ضد الفضلي ورجاله بدلا من التعصب لادعائهم ضد رجال الفضلي.
قال السلطان: اليس لأن الفضلي سوى حق واحد هو ماء النازعة وفيما عدا ذلك فهم المجحفون في الحق أهل يافع السفلى..
قلت أعتقد أن السلطان الفضلي هو الآخر تواق لإقرار السلام ولكن مسألة حصن النازعة ينبغي أن تحسم وأن يهدم حصن حلمة لأنه مصدر خوف وعداء للطرف الذي لايسيطر عليه.
لقد أقتنع السلطان عيدروس قائلاً أن آل الفضلي لايحترمون كلمتهم فهم يبدون استعدادهم للموافقة ثم لايلبثوا أن ينكثوا بعهدهم.
أنا لا الومك مطلقاً على ابتسامتك ولكن إذا كنت تريد السلام حقاً فيجب أن تجرب وأن تثق بوعود الطرف الآخر.
ثم استفسرت عن الأسباب الحقيقية لهذا النزاع الطويل وسألت عما إذا كان يتفق معي أن مسألة ماء النازعة هي سبب ذلك النزاع.
أصل السبب أجاب السلطان عيدروس بندقية رهنها أسلافى لدى السلطان الفضلي ولكن السلطان الفضلي رفض إعادتها.. قهقهت ضاحكاً لسماع تلك الحكاية وضحك السلطان أيضاً وأستدرك يقول بالطبع تلك مسألة تافهة ولكن الخلاف الأساسي يكمن في مسألة بعض الحقول التي أستولى عليها سلطان الفضلي من أسلافي في جعولة وفي مكانين آخرين منذ 32عاماً.
وسألته ما المانع في أن يهدم حصن حلمة وتحل المشاكل القائمة.
أجاب السلطان أريد ضمانات بعدم تكرار الاغارات في المستقبل ودفع تعويض عن ماتم سلبه في الماضي وإعادة الأراضي الزراعية.
قلت لقد فهمت من السلطان الفضلي أنه مستعد أن يعين أحد رجاله مندوباً في أراضيكم يبلغ السلطان، بحدوث أي اعتداء من جانب قبائل آل الفضلي وهو يقترح أن تفعلوا أنتم نفس الشيء.
أخبرت السلطان عيدروس وبالأسلوب الذي أقترحه السلطان الفضلي عن تنازل آل الفضلي عن المطالبة بما سلب منهم.
وطلبت بالمقابل أن يتنازل السلطان عيدروس هو الآخر عن مطالبة بما سلب منه. . وفيما كان رده على طلبي غير واضح إلا أنني أسنتتجت أنه يرغب في الاستجابة لطلبي فيما إذا حسمت المسائل الأخرى بطريقة مرضية.
قلت أنني تواق لترتيب لقاء بينكم وبين السلطان الفضلي وأضفت ولكن استجابة لرغبتكم التي عبرتم عنها في رسالتكم لم أصطحبه معي رغم رغبته في القدوم اليكم ولا أدري إذا كنت سترافقني إليه.
بدأ السلطان عيدروس في اختلاف الاعذار ولكن أخبرته أن ذلك ليس ضرورياً وإذا كان لايرغب فإن عليه أن يقول ذلك صراحة.
ولكنه بعد تردد وافق على المجيء معي مصحوباً بخمسة من رجاله كتبت رقعة للسلطان الفضلي وطلبت منه المجيء بصحبة خمسة من الرجال فقط وأن يقابلنا في منتصف الطريق وأرسلت تلك الورقة على جمل سريع إلى عبر الشعبة. . تحرك ركبنا السلطان، عيدروس ونحن من حصن حلمة من العاشرة والنصف مررنا بأرض يبس زرعها وبقى هناك تحت قوة الحرارة المحرقة.. وصلنا إلى مكان نمت فيه مجموعات من الأشجار يسمى السليمة.
بعد أن توارينا عن حصن حلمة إشار السلطان لرجاله بالانصراف فأنصرف الجيش راجعاً بأجمعه في اتجاه الشمال وهكذا لم يبق في ركبنا سوى عشرة فقط.. في السليمة أخترنا أجمل الاشجار منظراً وأورفها ظلا وأفترشنا تحتها قطيفة السلطان وجلسنا منتظرين عندما نهضت من مكاني لألقي نظرة على ما حولنا تراءى لي على بعد مائة ياردة خلفنا حشد من الرجال يقدر بمائتي رجل وتبين أنهم من أتباع السلطان عيدروس طلبت من السلطان أن يصرفهم وقد فعل فقد سرت إشاعة بأنه السلطان الفضلي قادم بجيش كبير.. وعند التحري تبين أن عدد القادمين بما فيهم السلطان الفضلي كانوا سبعة فقط ، وعندما دنوامنا تقدم السلطان عيدروس وأتباعه وأنا وتعانقا الرجلان كما يتعانق أخوان طال فراقهما عن بعض.. وأطلق رجالاتهم النار في الهواء تحية.
عدنا إلى حيث فرشت القطيفة تحت الشجرة قدمت للسلطان وللعم محمد الشاهي والماء فقد أشتد بهما الظمأ.
ثم شرعنا بالعمل ورددت على سمعيهما معاً ماسبق أن قلته لكل واحد منهما على إنفراد.. قلت للسلطان الفضلي لقد حدثني السلطان عيدروس حول بعض الحقول التي تخص قبائل يافع السفلى ولم تخبرني أنت بشيء عنها وعليه أريد أن أسمع رأيكم في القصة.
وعندما تملص السلطان الفضلي من الإجابة عن السؤال بدأت أشعر أن في الأمر شيء.
قال العم محمد: أستطيع أن أشرح الأمر لقد نوقش موضوع الأرض مع السلطان العبدلي وأعتبر الموضوع منهياً.
عند ذلك انفجر السلطان الفضلي قائلاً:- المسألة ماتزال معلقة في لحج وأنا لم آتي لمناقشة عمل ولكني أتيت لزيارة ودية لسلطان يافع.
قلت أنني أستغرب فيك هذا القول فأنت تعلم تماماً أني أمضيت جل وقتي منذ حللت عليك وأنا أحاول إقناعك للوصول إلى تسوية من نوع ما وقد قلت ذلك أيضاً للسلطان عيدروس ليس لدي أدنى رغبة في التدخل ولكني أرغب في المساعدة فقط فإذا كان ذلك موقفكم فأني في غاية الأسف لأني أهدرت وقتي أتعبت نفسي من أجل الوصول إلى لاشيء.
عندئذ قال السلطان الفضلي أنني مستعد أن أطرح رهناً تأكيداً على أنني سأقبل بأي قرار يتخذه السلطان عبدالكريم سلطان لحج. . وبعد مزيد من الحوار والنقاش وافق السلطان عيدروس هو الآخر على أن يقبل هو الآخر بما يقرره سلطان لحج.
نزع كل واحد من السلطانين جنبيته من أحزمة اثنين من أتباعهم وسلماها لي، وهما يرددان أنهما سيقبلان بما يتم إقراره بعد أن تسلمت الجنبيتين صببت من «ترموس» ماء فاتر وشربنا ماء المحبة ،وبعدها أنفض الجمع في جو تسوده المودة.
ودعنا اليوافع وسلطانهم على أمل اللقاء عما قريب، وتوجهنا نحو عبر الشعبة حيث نصبت الخيمة وأعد طباخي زايدي أعد لنا شاهي المضبوط، والذي شربنا منه جالوناً كاملاً وأكل كل واحد منا ثلاث بسكويتات فقط، وبعد ذلك أستلقينا على الأرض وأخذنا قسطاً من الراحة والنوم.. بعد ساعة ونصف، صحونا وشدينا الرحال في طريقنا إلى زنجبار بعد أن شكرت العاقل، على حسن الضيافة وطلبت منه أن لايشترك بأية غارة قادمة.
على العين والرأس قال ذلك وهو يطبطب على عمامته ولم يكن يساورني أدنى شك في أنهم سريعاً مايعودون إلى ماكانوا عليه.
كنا متعبين ولكن الرحلة عبر وادي بنا في اتجاه البحر كانت رائعة زاد من روعتها برود المساء، هناك العديد من الاشجار والاعشاب رغم أن الوادي كان بصورة عامة جافاً وخالياً من المزروعات بسبب الخلاف بين الفضلي والسلطان عيدروس.
أشار السلطان الفضلي إلى بعض المناطق ومنها الخور حيث كانت الزراعة فيها دائمة الاخضرار وافرة المحصول، بعد قليل مررنا بقناة النازعة مرة أخرى كانت القناة جافة تماماً ومرة أخرى أشتكى كعادته من آل يافع.
أشرت عليه مرة أخرى بأن عليه أن يحل خلافاته معهم وعندئذ فقط ستزدهر هذه الصحراء القفرة من جديد.
اجتزنا الممرات الجبلية وها نحن مرة أخرى نطوي السهل الساحلي المترامي.
انتهت بنا رحلتنا الطويلة إلى شمس الدين قرب زنجبار هنا تكتسى الأرض الخضراء وتكثر أشجار النخيل وخلال النصف الساعة الأخيرة من رحلتنا تركنا الجمال ترعى أشجار الشهر التي تنمو بكثرة حول قرى أبين.
وصلنا زنجبار حوالي الساعة السابعة مساءً وكان السلطان الذي سبقنا إلى هناك في استقبالنا.
ولعلعت رصاصة تحية من على سطح المنزل الذي خصص لنا والذي أسرعنا إليه طلباً للراحة غادرنا زنجبار صبحية اليوم التالي بعد أن قضينا ليلة مريحة غادرنا عن طريق الساحل إلى عدن بعد أن ودعنا السلطان وأقاربه الذين اصطفوا إلى جانبه يلوحون بأيديهم مودعين فيما انطلقت سيارتنا تشق طريقها نحو الساحل.
- هارود انجرامز
كتابة شبه الجزيرة العربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.