أجادت الجزيرة مخاطبة الشارع العربي باللغة التي يفهمها والقادمة من ثقافة مجبولة على التمرد المكبوت، فالتاريخ العربي الموصول بالاستبداد والحاكمية المطلقة وفّر المقدمة الحقيقية لنجاح خطاب الجزيرة، وهو نجاح لا علاقة له بالفعل المُبادر، بل بالبيئة الحاضنة التي جاءت من أعطاف التاريخ الخاص للعرب. فالمواطن العربي يعيش حالة تماهِ ٍمع جلاديه، وهذه الحالة ليست محكومة بالحاجة إلى ترغيب الحاكم فقط، بل أيضاً الخوف من ترهيبه، فالترغيب والترهيب ليسا في العالم العربي معادلة حكم فقط، بل فقه وجود ونمط حياة. وقد سقط في هذه الحفرة السحيقة الكثيرون بمن فيهم أفضل العقول وأكثر الإنتلجنسيا العربية إدراكاً لماهية التاريخ ونواميسه، ولعل تجربة عراق ما بعد الدكتاتور خير شاهد على هذه الحالة المرضية العامة، فالعراقيون كانوا مطواعين خانعين أمام جبروت الدكتاتور وسطوته، وتحولوا إلى قوة تدمير سيكوباتية بعد سقوط النظام، وأسهم الاحتلال وسوء إدارة أوضاع ما بعد المعركة فيما آلت إليه الأمور هناك، ولقد تكررت ذات الحالة في الصومال إثر سقوط نظام الدكتاتور سياد بري. المواطن العربي الذي تماشى طوعاً أو قهراً مع ثنائية الترغيب والترهيب كان أيضاً مادة اشتغال نفسي وروحي من قبل »الدين السلطاني« الذي يحتكر الحقيقة عند »الحاكم المطلق« فالجماهير بحسب هذا المفهوم لا تعرف، والحاكم يعرف نيابة عنها، ويفكر لها ولمصالحها. والمضحك المبكي في هذه المعادلة هو أن الحاكم مُحاصر بترويكا التجميل والتنميق ممن يدفعون به إلى مهاوٍ سحيقة. هذه الجماهير العربية المخطوفة من عقلها وروحها كانت ومازالت المادة الخصبة لرسالة قناة الجزيرة، وبالتالي تكون الاستجابة الضمنية والواقعية لخطاب الجزيرة متّصلة بهذه الجماهير المحجوبة وراء أسوار التجهيل والخوف والعصبية معاً. لقد شاءت الأقدار، بل النظام العربي، أن تتوفر لهذه القناة مقدمات كاملة لمباشرة دورها وخلخلة البنية السائدة في العالم العربي، غير أنه ويا للمفارقة مازالت تفقد الإمساك بالخيط الرفيع الذي يفصل بين الرسالة المطلوبة منها، والاندفاع وراء دهشة النجاح والمجد المهني، فإذا بها تعيش ذات الحالة الجماهيرية العربية التي لا يمكن إخراجها من دائرة »السيكوباتزم الجماعي« التي وقف عليها العالم الفرنسي الجليل »جوستاف لوبون« وهو يصف سيكولوجيا تلك الجماهير، وشاهدي على ذلك تركيز القناة غير المنطقي على بطولات عناصرها من مراسلين ومعدين ومصورين، في سلوك يشي بالتوتر الداخلي والانجراف إلى أوهام صغيرة لا تخلو من التسارع والسذاجة. آية ذلك تكريس الدفاع عن »علوني« والتذكير بالمصور المحتجز »سامي« كما لو أن العالم العربي خالٍ من رموز الحرية والكفاح الحقيقي، وكما لو أن المشتغلين في الجزيرة سيقدمون النموذج الساطع للمثقفين العضويين الانتمائيين!!.