كان الشاعر الجاهلي يعبر عما يكن بداخله من أحاسيس ومشاعر تجاه ما يجد من حوله من مناظر ومظاهر يعايش من حياة محفوفة بأفراح وأتراح وآمال وآلام وما يواجه من وقائع وأحداث ومخاطر ومغامرات فأخرج ذلك وجسده بأسلوب جميل وشائق تستريح له النفس ويطرب له الفؤاد ويهتز له الوجدان وذلك لحسن استخدام اللغة وتوظيف الألفاظ وتنسيقها فتوشحت وتزينت بمقومات الفن والإبداع التي تخلق التأثير «وهي اللغة والصورة والموسيقى» فأنتشر الشعر والشعراء وازدهرت اللغة الفصحى فكان الشعر يقال بسليقة اللسان وسهولة الاستخدام دون صعوبة أو تكلف وكان ذلك الانتشار على مساحة شاسعة في أرض العرب حتى نشأت مع الشعر أجناس أدبية أخرى كالخطابة والسجع وغيرهما ولكن لم يكن الأدب يسير بمفرده دون تقييم أو تمييز أو تحكيم لمعرفة جيدة رديئة بل سار معه ووازاه وقومه وميز جميله من قبيحه وقويه من ضعيفه وجزالة ألفاظه من ركتها وعمقها من سطحيتها وذلك عبر ما يسمي بالنقد فنصبت الخيام وتبارى الشعراء وحكم المحكمون وعلقت المعلقات بعد البت والحكم بتميزها وروعتها أثناء عرضها وسماعها فكان النقد الذي تطور بتطور الأدب فميزه ودقق في جماله وقبحه وعرض ذلك على قائله وكان ذلك حتى جاء الإسلام فصبغ الأدب بصبغتهه فظهرت عليه أغراض جديدة وحسن من الأغراض القديمة إلى التطور والتنوع ومحاكاة ما يطرأ على المجتمع من تغير ودخوله تحت أحكام ومصطلحات جاء بها الإسلام وفي العصرين الأموي والعباسي كثر الشعراء وتطور الأدب وظهرت أغراض جديدة فتكونت المدارس وتم الجمع والتدوين والتأليف « كالأصمعيات والمفضليات وغيرهما وظهرت علوم الفصاحة والبلاغة والفلسفة والمنطق التي خضع الأدب إلى أحكامها ووزن بميزانها فاشتغل الكتاب وحلل المحللون وقيم المقيمون وتسابق الشعراء على الخلفاء والأمراء والولاة لعرض قصائدهم فكانوا بمثابة النقاد فأعطيت الأعطيات والمكافآت وأجزلت الهدايا لحسن القول وجمال الأسلوب حتى وصل الأدب في العصر العباسي الأول إلى أرقى ما وصل إليه فسمى ذلك العصر بالعصر الذهبي وكل ذلك حصل بفضل الأدب وتعرضه للنقد الصادق الذي لا يفرق من حيث حكمه على النصوص بين قريب وبعيد أو صديق أو عدو أو ذكر أو أنثى والذي بني على الواقعية والميزان العارل وعدم المزايدة والمبالغة إلى أن وصل به الأمر إلى العصر الذي سماه بعضهم عصر الانحطاط والضعف «وقد اعترض كثير من النقاد على هذه التسمية لأن الأدب كان موجوداً آنذاك وألفت كثير من المؤلفات والدواوين وظهرت البديعيات التي كانت غاية في الجمال والفن فهذه التسمية ظالمة للأدب في هذا العصر حسب قولهم». حتى جاء العصر الحديث الذي ظهرت فيه الكلاسيكية والرومانسية والواقعية وغيرها وظهر فيه الشعر الحديث والقصيدة النثرية وغيرها من مظاهر التأثر بالغرب فكان النقد منذ بداية العصر يسير على قدم وساق فتعددت المدارس النقدية وألفت المؤلفات وتنوعت الاساليب واختلفت الطرق وفقاً لتطور الزمن ومواكبة العصر ووفقاً لظهور الأجناس الأدبية الأخرى «القصة- الرواية- المسرحية» فاشتغل النقاد وعرفوا مهاهم التي تفوق الأدباء أنفسهم وسار النقد والتقويم للأعمال الأدبية على هذه الحالة مرحلة لابأس بها ثم بعد ذلك بدأ التراجع والعد التنازلي للنقد الأدبي حتى وصل الآن إلى مرحلة التدهور وذلك بسبب قلة من يزاوله وعدم مكافأته للأدب والخروج عن مساره وعدم الإلتزام بقواعده ففي بلادنا مثلاً نرى عدم التعرض للدراسات النقدية في النصوص الأدبية وإن كان هناك نوع من التحليل والدراسة التي لا تكاد أن تذكر فهي قائمة على الخروج عن مسار النقد وتتكئ على المبالغة والمزايدة وغياب الحقيقة فلا تتعرض إلى مواطن الجمال والقبح على حد سواء وإظهار ذلك للملتقى بقالب فني وأدبي بل تخوض وتمدح وتصف بما لايوجد في النص ويطلق الناقد لنفسه العنان في الحكم دون الرجوع إلى خبرة نقدية وقاعدة صحيحة ومعروفة والبعض يضعف هذا ويخطئ ذاك لغيرة أو حسد أو خلاف والبعض يجعل ممن لا يعرف شيئاً نابغة « كما في السبع العجاف» لرجاء منفعة أو لمودة وقرب أو لحاجة في نفس يعقوب وهناك من يستخدم المزاجية والانطلاق في الحكم من زاوية ضيقة لا تتناسب مع ذائقة الملتقين الذين يمثلون الأغلبية وأخيراً فإن النقد الصحيح هو الذي يزن بميزان عادل ويرد برد مقنع مرتفع عن نزوات النفس وضعف العاطفة التي تتأثر بمؤثرات تدعو إلى الحقد والمغالاة والمزايدة وهذا النقد هو الذي يحفظ الأدب ويحتفظ بمعدنه وأصالته وتطوره ورقيه ويعمل على تقييمه ويمنع من فتح الباب على مصراعيه لكل من هب ودب وتطفل على الأدب.