أضفت «براءة» على حياة والديها سروراً كبيراً، وتملكهما حب عميق لها وأصبحت زينتهما في الحياة بل وأضافت إلى حياة والديها السعادة والهناء ووثقت رابطة حب والديها لبعضهما ولكن سعادتهما لم تدم طويلاً، فما هي إلا شهران من عمر ابنتهما «براءة» حتى تحولت الحياة لديهما إلى حزن ومآس.!! بدأت المعاناة مع مرض «براءة» الذي لم يعرفا حقيقته في البداية!!يعمل والدها موظفاً بسيطاً في مركز محافظة حجة- بينما أسرته وابنته في القرية التي تبعد مسافة طويلة عن مركز المحافظة- لكنه قرر أن يأخذها إلى مركز المحافظة حيث المستشفيات والعناية الصحية اللازمة!!. أجريت الفحوصات لبراءة وأعطي لها الدواء، لكن الألم لم يزل يعتصرها، وتذوي منه فيذوي قلب والداها حزناً عليها، فلذة كبده التي أنتظر قدومها بشوق تتألم أمام عينيه وراتبه البسيط لا يفي بمتطلباته وأسرته فضلاً عن تكاليف العلاج الباهظة لتزداد الأسرة معاناة إلى معاناة رؤية البريئة تتلوى من ألم لا تجد سبيلاً لإيقافه «وما باليد حيلة»!! حب ال«براءة» غلب كل ذلك وجعل الوالد يرحل بها نحو صنعاء حيث الأطباء المختصين والإمكانات اللازمة!!. أخذ طفلته ابنة الشهرين إلى العاصمة صنعاء وبعد زيارته لأحد المستشفيات لإجراء الفحوصات الطبية لها- راجياً معرفة ما ألم بها، وإيجاد علاج يبرئ ألمها- كانت المفاجأة الكبرى بانتظاره بل «صدمة كبرى»- كما يصفها علي محمود حمود القطامي والد براءة- ومثلت نتيجة الفحص صعقة كبيرة، وزلزالاً هز قلبه!! البراءة مصابة بالسرطان، وكما قال محمد القطامي- انقطع حبل الأمل، واعتقد أن مرض ابنته يعني مباشرة حكم الإعدام عليها!! فالسرطان يحول حياة المريض وحياة أسرته إلى جحيم ومعاناة، وذلك ما كان يعتقده والد «براءة»؟!. طمأن الأطباء والد «براءة» أن السرطان ليس حكماً بالإعدام وأنه يمكن لمصاب أن يتماثل للشفاء ويعود إلى طبيعته وخاصة إذا ما كان اكتشافه مبكراً ومكافحته مستمرة عندها عاد الأمل لوالد براءة، وشعر بالتفاؤل، ورغم أن معاناته المادية والنفسية قائمة إلا أنها- كما قال- خفت أمام تماثل ابنته للشفاء.. الطفلة براءة التي تبلغ الآن «سبعة أشهر» في وحدة الأورام بمستشفى الثورة تتعاطى جرعاً كيماوية إلى أن يأذن الله لها بالشفاء ووالدها كما يقول: «سيستمر في علاجها وسيبذل الغالي والنفيس حتى تشفى». وعن معاناته يقول القطامي إنه في بداية الأمر عانى معاناة نفسية ومادية شديدة خصوصاً مع تنقله بابنته ما بين «قريته بمحافظة حجة والعاصمة صنعاء» بالإضافة إلى التكاليف المادية «للسكن والمصروفات والأدوية» ويشير إلى أن معاناته الآن قد خفت عن ذي قبل وذلك بعد أن عرف المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان والتي وفرت له الأدوية ووقفت معه في علاج «ابنته براءة». إحصائيات مخيفة: في زيارتنا لوحدة الأورام بمستشفى الثورة لم تكن «براءة» وحدها من اغتال السرطان براءتها، فهناك أكثر من «1200» حالة مرضية من الأطفال فتحت لهم ملفات في الوحدة وهذا العدد لم يكن خلال عشر سنوات سابقة أو حتى خمس سنوات بل كان خلال السنة الحالية 2007م، وعدد كهذا لا شك يوحي بأننا أمام خطر عظيم وكارثة كبيرة في اليمن. هذا الرقم الذي أكده مدير وحدة الأورام بمستشفى الثورة لا يمكن الحد منه ومن انتشار مرض السرطان إلا من خلال قيام الدولة ومعها منظمات المجتمع المهتمة بالتوعية عبر وسائل الإعلام المختلفة بأدورها، ويقول الدكتور/ عبد الحميد أبو حاتم مدير وحدة أمراض الدم بمستشفي الثورة العام بالعاصمة صنعاء «إن الرقابة على المواد الكيماوية من قبل الدولة لا يقل أهمية عن التوعية بالمرض حيث أصبحت سبباً رئيسياً للإصابة بالسرطان في اليمن وذلك للاستخدام المفرط لها ممن قبل المزارعين اليمنيين». المبيدات تغتال صادقًا: يؤكد ذلك صادق عايض حزام- ابن الخمس السنوات- والذي وجدناه في وحدة الأورام، مصاباً بورم خبيث في بطنه، حتى أن حجمه الكبير يعيقه من ارتداء الملابس، وورم بهذا الحجم لم يأت من فراغ فلأن صادقًا من منطقة تكثر فيها زراعة القات والعنب ويفرط أهلها في استخدام المبيدات الكيماوية فقد كان ضحيتها!! والد صادق الذي ينتمي إلى بني حشيش بمحافظة صنعاء اعترف لنا أن المبيدات التي كان يستخدمها في زراعة القات والعنب كانت السبب وراء إصابة ابنه بالسرطان ويقول: إنه كان يقوم برش زراعته بالمبيدات الكيماوية التي كان يستخدمها ثم يرمي العلب الفارغة، فيأتي الأطفال ليلعبوا بها "وهو الأمر الذي" سبب الورم الخبيث لابنه صادق عايض" وقال إنه تأكد من ذلك بعد أن صدمه مرض ابنه وعاش في معاناة نفسية شديدة "وقرر- حسب تأكيده- الامتناع عن استخدام المبيدات في الزراعة». ولأن صادقًا فلذة كبده يعاني جراء مرضه دعا كافة زملائه المزارعين بمنطقته وكل مناطق اليمن لعدم استخدام المبيدات الزراعية لأن العاقبة كما قال «معاناة نفسية مستمرة والآم جسدية متواصلة» ودعاهم للنظر إلى أبنائها وأبناء الناس بعين الرحمة وألا يكونوا سبب عذابهم وآلامهم، ثم بعد ذلك يندمون حين لاينفع الندم!! داعياً في الوقت نفسه «الحكومة إلى أتخاذ قرار يمنع استخدام المبيدات الكيماوية وعمل رقابة شديدة على دخولها اليمن. التدخين والشمة: المبيدات ليس السبب الوحيد لمرض السرطان في اليمن وإن كانت في مقدمتها، فتعاطى التدخين وتناول «الشمة» هما من الأسباب الرئيسية كما أشار الدكتور/ عبدالحميد أبو حاتم ويقول إن هناك أطفالاً مهيئين للمرض بسبب انتقال آثار المواد الكيماوية من الأم التي تحملها نتيجة الأغذية المسرطنة أو التدخين أو القات أو الشمة، لأن التأثير كما قال «يأتي من حالة مسبقة أو نتيجة التغذية، مؤكداً أن الوقاية لذلك يكون بعمل التطعيمة الوراثية في الأم المصابة بالمرض والبصمة الوراثية الموجودة في الكرموسومات وهؤلاء يتم تجنبيهم الأشياء المؤثرة التي تظهر الفيروسات والمواد الكيماوية والإشعاع وهذه العوامل تساعد على ظهور المرض، أما إذا تم تجنب المرض في أعمار مختلفة فسيكونون حاملين للمرض ولكنهم غير مصابين. أما الأطفال في الشهور الأولى والذين لم يتعرضوا بعد لاستخدام الغذاء الذي تستخدم فيه المبيدات الكيماوية وتتضح إصابتهم بالسرطان فيؤكد الدكتور/ عبدالحميد أبو حاتم أن إصابتهم تكون من غذاء الأم التي هي من يتعرض لذلك، إضافة إلى أن موازين الأرض اختلفت لأن التربة الآن توجد فيها الكيمائيات ما يجعل الأم تتعرض له حتى قبل أن تحمل وقبل أن تنجب وهذه لم تكون معروفة من قبل وإنما ظهرت مع الطفرة العلمية الحديثة وغير المدروس نتائجها وآثارها بدقة!! السرطان يحرمهم اللعب والدراسة: ولأن مرض السرطان طويل الأمد في إصابته وعند شفائه فقد حرم أطفال كثيرون من مواصلة دراستهم وحرمهم التمتع باللعب مع أقرانهم فهذه "مشيرة سعيد علي" تبلغ من العمر 11 سنة في الصف الثالث الأساسي مصابة بسرطان الدم ما جعلها تتوقف عن الدراسة- كما تقول- وتضيف مشيرة «لأنني أسكن في منطقة ريفية- خولان، صنعاء حيث لا توجد هنالك وحدات صحية أو مراكز خاصة فقد أتينا إلى العاصمة لأتلقى العلاج، الممثل بجرعات كيماوية كل 21 يومًا وتضيف: بأنها مصابة به منذ سنة ونصف الأمر الذي جعلها لا تقدر على مواصلة دراستها لأنها تخضع للعلاج وليست مستقرة في العاصمة التي فيها علاجها، فيما مدرستها في القرية»!!. "مشيرة" تحلم أن تصبح دكتورة في المستقبل لكن أنى لحملها أن يتحقق مادام السرطان أمام حلمها ويمنعها من مواصلة دراستها التي بها ستحقق حلمها.. ويبقى حلمها موضع صراع بينها وبين السرطان، لا شك أنها ستحقق حلمها!!. "أمينة أحمد الزبيري" ذات ال9 سنوات هي الأخرى عاقها السرطان عن الاستمرار في دراستها- إلا بشكل متقطع- ولأنها تسكن في العاصمة فقد حاولت جاهدة أن تكمل دراستها عندما تشعر أن الألم خف عنها، أمينة الآن في الصف الرابع الأساسي، وكما تقول فأنها مصابة بسرطان الدم منذ الصف الأول الأساسي يا الله أربع سنوات وهي راضخة لآلامه، تعاني أوجاعه.. لقد روت لنا قصتها وفمها مملؤ بالدم، فهي كما تقوال وطوال «أربع سنوات والدم ينزف من لثتها باستمرار، وعلاجها فقط أعطاها دمًا كل ثاني يوم». "أمينة" بهذه الحالة في صراع دموي "يوم تنزف من دمها واليوم آلأخر ينتقل لها دم لكن غير دمها. اجتمعت أمينة مع قرينتها مشيرة في حلم أن تصبح طبيبة ولربما معاناتهما في المرض ومعايشتهما الدائمة للأطباء جعلهما يحلمان بأن يصبحا كذلك!!. الطفل المصاب بالسرطان تقف معاناته - ربما- عند الآلام التي تعتصر جسمه، وحرمانه من اللعب والدراسة، أما والدا الطفل المصاب فلا حدود لمعاناتهم إذ تبدأ بالمعاناة النفسية وهول صدمة معرفتهما بمرض فلذات أكبادهما ولا تنتهي بالهم المادي والتكاليف الباهظة- "محمد علام" والد الطفلة «آمال» المصابة بورم سرطاني خبيث في أسفل رأسها يحكي معاناته المتواصلة والتي بدأت في طفلته كورم حميد، ثم تطور إلى ورم خبيث، ليبدأ بذلك مشوار المعاناة- ابتداء من انتقاله من محافظة ذمار إلى صنعاء حيث المراكز الصحية والمستشفيات- قبل اكتشاف نوعية مرضها، ثم بإجراء عملية جراحية لها كلفته مبالغ مالية طائلة ويضيف علام «أن معاناته زادت بسفره إلى الخارج، حيث سافر بابنته آمال إلى القاهرة ومعه معاناته النفسية والمادية يكابد فيها عناء آلام طفلته وما يكلف علاجها من مبالغ مالية تضاف عبئاً لمعاناته، ثم ينتقل- بعد الفترة التي قضاها في القاهرة- بعد أن رأى تحسنًا في حالة «ابنته» إلى وحدة الأورام بمستشفى الثورة بصنعاء ليكمل علاج ابنته وتزداد المعاناة أكثر حسب تعبيره ولكنه يعود ويحمد الله على ذلك فهو قدره وحكمته!!. ويؤكد محمد علام «أن المعاناة تستمر عند عدم توفر العلاج ولا سيما الجرعة الكيماوية التي تتعاطها ابنته كل 21 يومًا وتكلفه 25 ألف ريال لكن هذه المعاناة انتهت بمجرد تعرفه على المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان التي تعمل- حسب قوله- على توفير الجرعة لطفلته مجاناً الأمر الذي وفر عليه مئات الآلاف طوال فترة علاجها». أسرة الطفل/ أكرم ناصر الحيمي ست سنوات- مصاب بسرطان في الأمعاء- لا تقل معاناة عن أسرة محمد علام، بل إن معاناتهم المادية أكثر لأن والد أكرم كما قال بغير وظيفة ولايوجد لديه دخل يعينه على علاج ابنه أكرم!! يقول ناصر الحيمي إنه لمدة سنة من مرض ابنه لاقى الأمرين فجرعة ابنه التي يتعاطاها كل 21 يوماً تكلفه 30 ألف ريال ولأنه لايستطيع توفير مثل هذا المبلغ، فضلاً عن مصاريف الاستمرار في علاج ابنه، فقد أقدم على بيع كافة أثاث البيت الذي يمتلكه من أجل علاج ابنه أكرم ومازال ناصر يعاني أشد المعاناة جراء هذا المرض الذي أصاب ابنه. أما علي سعيد والد الطفلة زبيدة 5 سنوات والمصابة بسرطان الدم ولأنه يسكن في منطقة ريفيه بمحافظة إب ولا يوجد له قريب في صنعاء، فأنه يتكبد عناء السفر أسبوعياً من منطقته السياني إب إلى العاصمة صنعاء لأجل الجرعة التي تتعاطها «ابنته» الأمر الذي يكلفه مبالغ لاطاقة له بها في ال«مواصلات ومصاريف وسكن...»، ولأن حالته المادية متعسرة فإنه يقوم باقتراض المال من أهالي بلدته لكي يرى فلذة كبده معافى من المرض.. ويبقي علي سعيد على هذه المعاناة الدائمة والسفر المتواصل بين صنعاء وإب حتى يأذن الله بشفائها. السرطان بين الريف والمدينة: لأن مناطق الريف اليمني في الغالب لا توجد بها المراكز الصحية والأطباء المختصون فقد كانت أكثر من يترددون على وحدة الأورام بمستشفى الثورة، لكن يبدو أن أطفال المدن يترددون أيضاً على الوحدة- مصابين بهذا المرض- وكما تقول حياة الجماعي- ممرضة في الوحدة- إن ظاهرة إصابات السرطان في المدن قد بدأت تنتشر بشكل ملحوظ، مؤكدة أن الوحدة يصلها في اليوم الواحد من 35إلى50 حالة، أما الحالات التي شفيت من المرض فتقول الجماعي أنها قليلة جداً تصل إلى10 حالات، والتي لم تشف وتوفيت كثيرة جداً. وأوضحت الأخت حياة «أنهم في الوحدة فضلاً عما يقدمونه للمرضى من علاج يقدمون المعاملة الحسنة والأخلاقية والتي تعتبر جزءًا مهماً في تخفيف معاناة المرضى، بل هي جزء من العلاج» حسب تعبيرها. أنواع السرطان في اليمن: يؤكد الدكتور/ عبدالحميد أبو حاتم اختصاصي سرطان الأطفال أن أكثر الأنواع انتشاراً في اليمن هو سرطان الدم ونسبته كبيرة ويشير أبو حاتم إلى أن أكثر الحالات التي تأتيهم في الوحدة هي من محافظة الحديدة، ومنطقة جهران بذمار، وذلك باعتبار انتشار «الشمة» في الأولى ولأن الأخرى زراعية تستخدم فيها المبيدات الكيمائية. وعن المعوقات التي تقف أمام شفاء المصابين بهذا المرض بهذا يقول الدكتور/ أبو حاتم: أهمها عدم وجود المراكز المتخصصة، حيث إن مرض السرطان يختلف عن بقية الأمراض التي تستمر لفترة قصيرة بينما يحتاج مرض السرطان وعلاجه لسنوات عدة. وأغلب المصابين به من مناطق بعيدة لا يستطعيون مواصلة العلاج والمجيء إلى العاصمة لطول فترة العلاج الأمر الذي يكلفهم نفقات مالية «مواصلات وسكن وغير ذلك» وأضاف «أن عدم وجود العلاجات الجيدة والمتابعة الحثيثة والبحوث العلمية وكذا عدم رعاية الأبوين، كل هذه تمثل أهم العوائق في شفاء مريض السرطان». وتمنى الدكتور/ أبو حاتم للحد من انتشار السرطان.. «أن تبذل الحكومة قصارى جهدها للتوعية بمخاطرة ومسبباته وطرق الوقاية منه بشتى السبل المختلفة والوسائل»، بالإضافة إلى «رقابتها المشددة على استيراد المبيدات الكيماوية ومنع دخولها اليمن». متمنياً في الوقت نفسه على الأطباء المختصين في مجال السرطان تكثيف جهودهم وإدارك واجباتهم الكبيرة وعظيم أجور هذه الأعمال في الدنيا والآخرة إذا أرادوا بها مرضاة الله.