ربما يقول البعض بأن جميع هذه الظواهر إنما هي من سمات القصة الحديثة "القصيرة"، لا الرواية وهو قول صائب، لا سيما وأننا لم نجد حتى الآن رواية عربية تصدق عليها هذه الظواهر مجتمعة بينما ثمة عشرات من القصص القصيرة يمكن أن نطبق عليها هذه الظواهر. لكن ما يجب أن ندركه ونعلمه بأن القصة الحديثة إنما استمدت كل ذلك من "الرواية" الجديدة المعروفة ب "رواية التكوين النفسي، والفكري" أو تلك التي عرفت ب " رواية تيار الوعي" الحديثة، وكان من روادها "جيمس جويس، وفرجينيا ودلف" وانتقل هذا التيار إلى العرب في ستينيات القرن الماضي، حيث نجد شذرات منه في بعض روايات نجيب محفوظ في مصر، وبعض شذرات لدى محمد عبدالولي في اليمن في روايته " يموتون غرباء" والتي، وإن ارتدت ثوب الواقعية - المناقض لتيار الوعي- إلا أن أهم ما أخذته منه هو "المونولوج الداخلي" والرمز. حيث مفهوم "الوعي" سواء في اليمن، أو غيرها لم يكن قد تعمق بصوته الأوروبي أنذاك -الستينات، السبعينات- إلا أنه الآن يبدو واضحاً، ومتعمقاً إلى حدٍ كبير في بعض الروايات الجديدة نحو رواية"رامة والتنين" ل "ادوارد الخراط" والتي نجد الأحداث فيها "ليست أكثر من حالات سيكولوجية، يبدعها مناخ العالم الروائي، .. وكل شيء فيها سرعان ما يتخامد وراء الكلمات الجوهرية ليسود سياق شعري يسم الرواية ببناء معماري واضح: الحوار الداخلي". وتميزت الرواية بصبغة التأليف الجدلي الذي يجعل من الرواية مفتوحة،ويأتي زمنها أفقياً، نازعة إلى الصياغة التجريدية(1). لكن الحاصل الآن هو أن القصة القصيرة أضحت متفردة على مستوى: التفتيت اللغوي، والتداعي الحر، واستخدام تكنيك الذاكرة، والتحليل العقلي، والعناية بالتصويرية، والرمزية، وبروز ظاهرة التأمل، والأحلام، والهذيان، والانقطاعات، وتداخل الزمان بالمكان، أو تلاشيهما والعناية بالزمن النفسي، أكثر من الزمن الآلي.. إلخ. وهو ما يؤهل القصة القصيرة لاحتواء تعاليم هذا التيار أكثر من الرواية للأسباب الآتية: أولاً: خلوها من الحشو، واللغو الكثير، والتفصيلات المتعددة، الممملة أحياناً. ثانياً: هروبها من التناول الطولي للأحداث إلى الأفقية، والعرضية، فترفض قص حياة بأكملها، أو حكي قصة شخصية كاملة وتكتفي ب" تصوير جانب واحد من حياة الفرد، أو زاوية واحدة من زوايا الشخصية الإنسانية، أو موقف واحد من المواقف، أو تصوير خلجة واحدة، أو نزعة واحدة من خلجات النفس الإنسانية ونوازعها (2). ثالثاً: كسرها لمبدأ الحوار القاعدي، حيث تستطيع الاستغناء عنه كلياً - أحياناً- عكس الرواية التي لا نستطيع الاستغناء عن بنائيةالحوار:كبرت أو صغرت.فصار بالتالي منطق القصة القصة القصيرةهو القرب،الذي نستطيع من خلاله تجاوز الواقع المادي، بكل ما يحفل به من غرابة، ومتناقضات. وبعيداً عن الأسباب السالفة، وبمنظور خارجي، فإن القصة القصيرة تسجل حضورها من خلال كونها الأسهل نشراً، والأكثر تداولاً وحميمية بين، وإلى القراء. إنها معه في المنزل، وأثناء استراحته، وفي مخدع نومه، وعلى مكتبه في العمل .تمتلئ بها الصحف، والمجلات المتناثرة حوله، بل إنه يستطيع أن يقرأ قصة أثناء تصفحه للمجلات، والجرائد عند مروره على المكتبات، والأكشاك، وتغزوه القصة القصيرة إلى مائدة طعامه، وهو يفترش ورقة من صحيفة. هي إذاًَ وجبة لقارئ يحيا في زمن مغاير، وفي عصر مثقل بالحمولة، والقلق، والتوتر، ومفعم بتناقضاته، وهمومه الخاصة،و العامة. زمنٍ وعصرٍ انتجا قارئاً عجولاً يحيا الهرولة معظم يومه،ولا وقت لديه للجلوس أمام مائدة مثقلة بأصناف الأطعمة المفيدة، وغير المفيدة، ويكفيه رغيفاً واحداً يختزل مائدة متكاملة؛ ليتابع بعده مشوار الركض بحثاً عن نفسه بين آكام سيرورة الوجود. فمن هو قارئ الرواية من ذات المنظور؟ إنه قارئ مترف، ويمتلك الوقت والزمن،والكفاية المادية، والمكانية الشاسعة. يحب الثرثرة، والتفاصيل الحشوية، فهو قارئ ملول يقرأ، ولا يقرأ. أما كاتبها فهو كما يقول "ميشال بوتور": "قارئ نفسه، ولكنه قارئ غير كافٍ: يتألم من عدم كفايته، ويرغب كثيراً في الحصول على قارئ آخر يكلمه، ولو كان قارئاً مجهولاً" (3). ...................................... الهوامش، والمصادر: 1- أشكال المعمار الفني في الرواية العربية الجديدة، عبدالرحمن بو علي، عامات، ج 3، 1999م. 2- القصة القصيرة. م س. 3- بحوث في الرواية الجديدة، ميشال بو تور، ترجمة فريد أنطوينوس، منشورات عويدات، بيروت ط 3، 1996م.